سَها الطفل في قاعةِ الدرس، وأخَذ يحلُم - باستغراق لذيذ - بصديقته الشجَرة.



يبتسِم
بانتشاءٍ وهو يُعاين الصُّور والمشاهد تَتوالى أمامَ عينيه واضحة،
حقيقيَّة كأنما يعيشها في هذه اللحظة بالفِعل: يَصِلون أخيرًا، يخفض السائق
سرعةَ السيارة عند بلوغ الطريق غير المعبَّدة على مشارف البلدة، يتجاوزون
المسجدَ ذا المئذنة الحجريَّة القصيرة، فيخرج رأسه مِن نافذة السيارة،
وينظر بلهفةٍ وشوق إلى الشجرة، يجدها هناك في مكانها شامخة، راسخة كما كانت
أبدًا، وكما في كلِّ مرة، يرفع عينيه قليلاً إلى أعلى فيرَى بوضوح كيف
تُحرِّك الشجرة أغصانها العليا الرفيعة، مشيرة إليه في ما يشبه التحية،
لدَاته لا يُصدِّقونه، بل ويَسخرون منه أحيانًا، لكنَّه متأكِّد من أنَّ
شجرته تلوح له بأغصانها مستقبلةً له وهو قادم إلى البلدة، أو مودعةً له وهو
يغادر باتجاه المدينة.



غالبًا ما يَصِلون البلدة في
الظهيرة، حيث الرِّيح ساكنة تمامًا وهاجعة في قُمقمها السري، تاركة ذرَّات
التراب وقِطَع القش والهباء راقدةً في سلام، ومع ذلك فإنَّه إذ يرفع عينيه
إلى أعلى الشجرة، يرَى أغصانَها الرفيعة وهي تلوِّح له بشكلٍ لا تُخطئه
عيناه.



يَدْنون من المنزل ببابِه الخشبي الضخْمِ الذي
يتوسَّطه مزلاج حديدي ثَقيل، يشرئِبُّ بجسده الصغير نحوَ المقعد الأمامي،
وبإلحاحٍ يطلُب مِن والده أن يضغطَ على منبه السيَّارة لإعلان وصولهم،
يستجيب الأبُ لطلبه وهو يبتسِم، ضاغطًا على المنبه أكثرَ مِن مرَّة،وعمَّا
قليل سيظهر الجَدُّ بوجهه البشوش الذي تُجلِّله لحيةٌ بيضاء مهيبة، قبل أن
تتبعه الجَدَّة بخطوها الوئيد، وهي تُرسل نظراتها الحانية داخلَ السيَّارة
باحثةً عن حفيدها.



لكن الصَّوت الذي يسمَعُه الطفل الآن مختلف تمامًا، وله
في النَّفْس وقعٌ مغاير، هذا ليس صوت منبه السيَّارة الذي يعرفه جيدًا!
وفقط عندما يحتدُّ الضجيج من حوله، وتتداخل الأصوات، ينتبه فجأةً مِن شروده
وينظر مِن حوله؛ ليدركَ أنَّه الآن فوق مقعد الدِّراسة وليس فوق مقعد
السيَّارة الخلفي، وأنَّ هذا الصوت الملحَّ الحاد النبرة الذي لا يَزال
صَداه يتردَّد في أُذنيه، هو صوتُ جرَس المدرسة الآذِن بنهاية الحصَّة
الدراسيَّة!



يغادر الطفلُ قاعةَ الدرس، وقدِ استيقظ في صدره
الحنين، وأخَذ يترقَّب العطلة الدِّراسيَّة بفارغ الصبر كي يجدِّد لقاءَه
بصديقته الشجرة.




• • • •




في تلك الأثناء كانتِ الشجرة، هناك، تُرخي أوراقها بهدوء، وتُنحيها جانبًا كي تتيحَ لأشعة الشمس أن تُصافح خدودَ ثمار تتأهَّب للنضج.



كانتِ
الشجرة تنتصب في حقلٍ قريب، إلى جانبِ الطريق المطروقة المؤدِّية إلى
المسجد، كلَّما أثمرتْ مالَ باتجاهِها الصبيان والرُّعاة وقطَفوا ثمارَها،
لكن الطفل يتملَّكه اليقين بأنَّ الشجرة لا تنساه أبدًا؛ تحتفظ له - في كل
مرة - ببعضٍ من ثمارها: تلفُّ حولها وريقاتها وتحجبها عن الأعين، أو تظهر
جانبًا منها أخضر نِيئًا فيحجم الآخرون عن قطفِها، وعندما يأتي هو يجِدها
في تمامِ النضج، شهية، وتستسلم طيعةً لحركة أصابعه الصغيرة القاطفة، يقطفها
وهو يحسُّ بطعمها شهيًّا لاذعَ اللذة، فيتحلَّب ريقه حتى قبلَ أن يضعها في
فمه.



للشجرة ذاكرةٌ حسيَّة وصوتيَّة أيضًا.



تعرِف الشجرة ملمسَ ظهر الراعي؛
إذ يستند إليها مستريحًا عندما يعود مساءً مِن الرعي، يجمع الخرفان حولَ
البئر لتشربَ قبل أن تأوي إلى حظيرتها، تُدرك أنَّه هو فتتأهَّب لتلقي
أنغام الناي التي لا تلبَث أن تخرج هادئةً، منسابةً، وفيها نبرة الحزن
الطاغية عينها.



وتميِّز الشجرة أنفاسَ الفلاَّح المتعَب إذ
يلوذ بها لحظةَ الظهيرة، يضع المعول جانبًا، ويطلق آهة مديدة، ينتظر أن
يحمل إليه ابنُه وجبةَ الغَداء من المنزل القريب، يرسل الرجل نظرَه فيلمح
الطفل قادمًا في الطريق غير المعبَّدة يلفه السراب، مثل عادته دائمًا يمشي
ببطء وتلكؤ، وقد يتوقَّف أحيانًا وسطَ الطريق؛ ليبحثَ بنظره عن شيءٍ ما لا
يجده أبدًا، ثم يستأنف سيره، مِن حين لآخر يضرب حجرًا بقدمه، ويعود ليضربه
مرةً ثانية فثالثة، ولا يتراجَع قبل أن يقذف به خارجَ الطريق، يرى الرجل
ذلك - كما في كلِّ مرة - فيبتسم، بل يضحك أحيانًا بشكلٍ مسموع وتسمع الشجرة
ضحكاتِه، يضحَك ويقول لنفسه: لا فائدة! هذا الولَد الشقي لن يكفَّ عن ذلك
قط.



داخل نسغها السائِل في مجرى العُروق المستترة،
يغْفو إحساس الشجرة بجسدِ صديقها الطفل، الجسد الغضِّ والهش، وعندما يأتي
مرةً أخرى في الموعد القادِم، فإنَّ الشجرة لن تخطئه أبدًا.




• • • •




..
بالكاد تستبقيه الجَدَّة الطيِّبة لينهي وجبةَ إفطاره، يركض خارجًا مِن
باب المنزل الخشبي الضخْم، وعلى جانبي شفتَيه بقايا الحليب الطازج، يرفع
مِن وتيرة ركضه باتِّجاه الشجرة وهو يحدِّق في اتجاهها بإمعان.



يبلغها أخيرًا وهو يلهَث، يحضن
جذعَها العريض بجسدِه الصغير، يعلو صدرُه ويهبط، يتحرَّك شيءٌ ما في نسغ
الشجرة، ويَسري في عروقها إحساسٌ مختلف، حينذاك تفكِّر الشجرة: ليس هذا
ملمسَ جسد الفلاح الخشِن، المغطَّى بوحْل الحقل، وهو يستريح كعادتِه تحتَها
في انتظار أن يحمل إليه ابنُه وجبةَ الغَداء، وليس ملمسَ جسدِ الراعي الذي
يَسري في أوصاله دبيبُ التعب، وهو يستريح كما يَفعل كلَّ مساء عندما يعود
مِن الرعي، لا، وليس ملمسَ أجساد بعض شبَّان القرية المتبطِّلين، الذين
يجتمعون هنا أحيانًا؛ ليقامروا، تحسُّ بشُحنات قوية من العصبية والتوتُّر
ترسلها أجسادُهم الفتية، الطافِحة بالعنفوان، والمتأهِّبة على الدوام
للدخول في المشاحنات والعراك.



تفكِّر الشجرة قليلاً، ولا تلبَث أن تسعفَها ذاكرتها الحسية التي لا تُخطئ:
أجل إنَّه صَديقها الطِّفل، وقد عاد لزِيارتها في موعدِه السَّنوي بالضبط،
تحسُّ ببدنه الصغير الهشِّ يستريح على جذعها، وتشعُر بيديه الطريتين وهما
تلتفَّان من حولها، فتستيقظ تلك المشاعِر النائِمة في نسغها، وتنتفض داخلَ
عروقها، أجَلْ، تفعل ذلك، فالشجرة لا تَنسى أبدًا.



يبدأ
الطفل في تسلُّقِ الشجرة، النتوءات الصغيرة فوقَ الجذع، على الرغم مِن
ضعفها، تتحمَّل ثِقل جسده الصغير الخفيف الوزن، يمدُّ يديه ممسكًا بالأغصان
مرتقيًا أعْلى فأعلى، فتطاوعه وتتحوَّل إلى ما يُشبه الأيدي تحمله برِفق
إلى أعلى، تفعل الأغصانُ ذلك؛ إذ لا تحسُّ بشحنات العَداء والشر التي تنبعث
عادةً من أجساد الأطفال الآخَرين عندما يضمرون لها الأذى: يخربون الأعشاش،
ويَقطفون بعضَ الثمار النيئة لمجرَّد إتلافها، وقد يؤلمونها عميقًا عندما
يَكسِرون بعض الأغصان لصُنع مقاليعهم.




يرتقي
الطفلُ أعلى فأعلى دون خوف، يتشابك جسدُه الصغير بالأغصان والأوراق، ولا
يَلبَث أن يجد ثمارًا شهيَّة خبأتها الشجرة وأخفتها عن أعينِ الآخرين من
أجْله، يقطفها بأصابعَ مرتعشة بالرغبة، يضَع الثمرة الأولى في فمِه، ويحسُّ
بها أشهى ثمرة أكَلَها في حياته، وبامتنان عميق لصديقتِه يُخبئ الأخرى في
جيب قميصه.
• • • •




عندما يكبر قليلاً،
لن يسمعَ الطفل بتلك الحِكمة الشهيرة أو يَقرؤها فقط في الكتُب، بل إنَّه
سيعاين بنفسِه كيف ستموت شجرتُه الأثيرة واقفة، وسيرَى كيف ستظل - حتى آخِر
رمق من وجودها - رمزًا للعطاء، عندما يتحوَّل جذعها وأغصانها إلى حطبٍ
جيِّد، يَستدفئ به مقرور في البادية، أو تنضج أم على نارِه خبز الصباح.



ويومًا ما سيعرف أيضًا حِكمة مِن ذهَب: الشجرة المثمِرة هي التي تُقذَف بالحجارة!




• • • •




كان الطفل تلميذًا نجيبًا يحبُّ الأشجار.

وكانتِ الشجرة تينة معمرة أثمرتْ بسخاءٍ عديد المرات.