ها هو شهر الخير قد قوضت خيامه ، وتصرمت أيامه ، فحق لنا أن نحزن على فراقه ، وأن نذرف الدموع عند وداعه .


وكيف لا نحزن على فراقه ونحن لا ندري هل ندرك غيره أم لا ؟ كيف لا تجري
دموعنا على رحيله ؟ ونحن لا ندري هل رفع لنا فيه عمل صالح أم لا ؟ وهل
ازددنا فيه قرباً من ربنا أم لا ؟ كيف لا نحزن عليه وهو شهر الرحمات ،
وتكفير السيئات ، وإقالة العثرات ؟! .

يمضى رمضان بعد أن أحسن فيه أقوام وأساء آخرون ، يمضى وهو شاهد لنا أو
علينا ، شاهد للمشمر بصيامه وقيامه وبره وإحسانه ، وشاهد على المقصر بغفلته
وإعراضه ونسيانه .

رمضان سوق قام ثم انفض ، ربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر ، فلله كم سجد فيه
من ساجد ؟ وكم ذكر فيه من ذاكر ؟ وكم شكر فيه من شاكر ؟ وكم خشع فيه من
خاشع ؟ وكم فرّط فيه من مفرِّط ؟ وكم عصى فيه من عاص ؟ .


ارتحل شهر الصوم ، فما أسعد نفوس الفائزين ، وما ألذ عيش المقبولين ، وما
أذل نفوس العصاة المذنبين ، وما أقبح حال المسيئين المفرطين .


لابد من وقفة محاسبة جادة ننظر فيها ماذا قدمنا في شهرنا من عمل ؟ وما هي
الفوائد التي استفدناها منه ؟ وما هي الأمور التي قصرنا فيها ؟ فمن كان
محسناً فليحمد الله وليزدد إحسانا وليسأل الله الثبات والقبول والغفران ،
ومن كان مقصراً فليتب إلى مولاه قبل حلول الأجل .

تذكر أيها الصائم وأنت تودع شهرك سرعة مرور الأيام ، وانقضاء الأعوام ، فإن
في مرورها وسرعتها عبرة للمعتبرين ، وعظة للمتعظين قال عز وجل: { يقلب
الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } (النور 44) ، بالأمس
القريب كنا نتلقى التهاني بقدومه ونسأل الله بلوغه ، واليوم نودعه بكل أسىً
، ونتلقى التعازي برحيله ، فما أسرع مرور الليالي والأيام ، وكر الشهور
والأعوام .

والعمر فرصة لا تمنح للإنسان إلا مرة واحدة ، فإذا ما ذهبت هذه الفرصة وولت
، فهيهات أن تعود مرة أخرى ، فاغتنم أيام عمرك قبل فوات الأوان ما دمت في
زمن الإمكان ، قال عمر بن عبد العزيز : " إن الليل والنهار يعملان فيك ،
فاعمل أنت فيهما " ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : "ما ندمت على شيء ندمي
على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي " .

وتذكر دائماً أن العبرة بالخواتيم ، فاجعل ختام شهرك الاستغفار والتوبة ،
فإن الاستغفار ختام الأعمال الصالحة ، وقد قال عز وجل لنبيه - صلى الله
عليه وسلم- في آخر عمره : {إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في
دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً } (سورة النصر) ،
وأمر سبحانه الحجيج بعد قضاء مناسكهم وانتهاء أعمال حجهم بالاستغفار فقال
جل وعلا : { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم
} (البقرة 199) .


كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يجتهدون في إتمام العمل وإتقانه ثم
يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده ، كما وصف الله عباده المؤمنين بأنهم
: {يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون } ( المؤمنون 60) ،
فهل شغلك أخي الصائم هذا الهاجس وأنت تودع شهرك ، قال علي رضي الله عنه : "
كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل ، ألم تسمعوا إلى قول الحق عز
وجل : {إنما يتقبل الله من المتقين } ( المائدة 27) ، وكان ينادي في آخر
ليلة من شهر رمضان : " ياليت شعري من هذا المقبول منَّا فنهنيه ومن هذا
المحروم فنعزيه ، أيها المقبول هنيئاً لك ، أيها المردود جبر الله مصيبتك "
.



اللهم لك الحمد أن بلغتنا شهر رمضان ، اللهم تقبل منا الصيام والقيام ،
وأحسن لنا الختام ، اللهم اجبر كسرنا على فراق شهرنا ، وأعده علينا أعواماً
عديدة وأزمنة مديدة ، واجعله شاهداً لنا لا علينا ، اللهم اجعلنا فيه من
عتقائك من النار ، واجعلنا فيه من المقبولين الفائزين.