القاطي العبدري
[قصر الجمّ]
وعلى الطّريق الّتي سلكناها قصر الجمّ ، وهو قصر الكاهنة ، وما وقع بصري في كلّ ما رأيت على [١٢٧ / ب] بنيّة أعجب ولا أغرب (١) منه ، وهو ممّا لا يمكن تصوّره ، بالوصف ، ولا غنى في تصوّره عن المشاهدة لغرابته ، ومختصر وصفه أنّه قصر مستدير متّسع عال جدا من صخور منحوتة كبار ، محكمة الوضع والرّصف ، حتّى كأنّه حجر واحد ، وقد فتحت في أعلاه أبواب مرصوفة (٢) محيطة به ، وعلى تلك الأبواب أبواب أخر مثلها ، دائرة بالقصر أيضا ، ويظهر ما فوق الأبواب من بعد كأنه قصر واقف في الهواء. وأظنّ تلك الأبواب لمكان اختراق الرّيح احتياطا على القصر من عاديتها لإفراط علّوه ، ويمكن أن تكون لغير ذلك وبناء داخل القصر أعجب ، فإنّه لو جعل دورا واحدا لم يكن فيه كبير منتفع ، وإن اتّسع في السّاحة على وضع واحد ضاقت وحجبت عنها (٣) الشّمس ؛ فجعل البناء فيه مدرّجا كلّما طلع نقص منه دور ، حتّى ارتفع البناء إلى حدّ لا يحجب فيه بعضه (٤) الشّمس عن البعض ، حتّى يضربها دوام الظّلّ عليها ، وصارت السّقوف المدرّجة من جملة السّاحة يرتفق بها إذ لم يبق من السّاحة غير مبنيّ إلّا دائرة ضيّقة.
__________________
(١) في ت : أغرب ولا أعجب.
(٢) في ت وط : مصفوفة.
(٣) في ت : عنه.
(٤) في ت : فيه بعض.
وهذا القدر هو الّذي يمكن إثباته في صفة هذا القصر ، وهو من جملة المباني الغريبة الّتي لا تتصوّر تصوّرا تامّا إلّا بالمشاهدة ، وليس في داخله عمارة معتبرة ولكنّ العمارة خارجة (١) عنه ، وهنالك ديار وبساتين وجامع مليح ؛ وأهلها ناس صالحون شملتهم بركة الشّيخ الصّالح أبي زيد اللّخميّ ـ رحمهالله ـ وأولاده الآن على طريقته في الدّين والصّلاح وإطعام الطّعام ، نفعهم الله ، ونفع بهم.
قام العبدري برحلته في 25 ذي القعدة من سنة 677 هـ براً من بلده "حاحة" على المحيط الأطلسي في المغرب الأقصى، وقطع كثيرا من المدن في المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر، ثم دخل أراضى الحجاز، فأدى فريضة الحج، ويمم شطر فلسطين فزار بعض مدنها ثم عاد إلى بلده برا.
اهتم العبدري في رحلته بالناحية العلمية للبلدان التي مر بها، وترجم لعدد من الشيوخ الذين لقيهم، ودوَّن ما أخذ عن كل واحد منهم من فقه، وحديث و أدب، وغير ذلك، مما جعل الرحلة اقرب ما تكون إلى فهرس لشيوخه.
ولم يغفل العبدري النواحي العمرانية في البلدان التي مر بها، ولا الآثار الباقية، ولا النواحي الاجتماعية والاقتصادية، والجغرافية والتاريخية، مما يزيد في قيمة الرحلة ويجعلها مصدرا مهما للدارسين.
اسمه ونسبه
لم تسعفنا المصادر القديمة بترجمة وافية لحياة العبدري، إذا خلت كتب التراجم والطبقات والفهارس من ذكره، وأقدم من ترجم له - فيما نعلم - ابن القاضي المكناسي (ت 1025 هـ) في كتابه "جذوة الاقتباس" (2) غير أن هذه الترجمة جاءت مختصرة لا تكاد تفيد كثيرا، فهي لا تذكر حديث ولادته، ولا زمن وفاته. ولا تفصِّل في أخبار نشأته. ويبدو أن ابن القاضي استقى ترجمة العبدري من رحلته، وكذلك فعل من جاء بعده، وترجم لصاحبه الرحلة. (3)
فالرحلة فيما نظن هي المصدر الرئيس الذي أفاد منه كل الذين ترجموا للمؤلف، ولولاها لضاع ذكر العبدري فيما ضاع من تراث الأمة.
وثمة احتمال أن يكون ابن عبد الملك المراكشي، (ت 703 هـ) ترجم للعبدري ترجمة وافية في كتابه "الذيل والتكملة" (4) لما كان بينهما من علاقة وطيدة، إذ يبدو انه جمعت بينهما بعض حلقات الدرس في مراكش، ولا سيما حلقة شيخهما قاضي الجماعة بمراكش أبى عبد الله محمد بن علي بن يحيى بن يحيى المدعو بالشريف. (5) ونجد العبدري يذكر ابن عبد الملك بقوله: صاحبنا الفقيه الأوحد ويصف كتابه بالإتقان والإفادة (6) ، ولكن هذا الاحتمال يبقى رهناً بعثورنا على الجزء الخاص الذي ترجم فيه للمحمّدين. (7)
ولذلك كان لزاما علينا أن نسعى وراء الأخبار، وما استيسر من دلالاتها، لنجمع ترجمة اقرب ما تكون إلى الصحة لهذا الرحالة الأديب.
والعبدري كما جاء في صدر مخطوطات رحلته: محمد بن محمد علي بن أحمد بن سعود. وينتهي نسبه إلى عبد الدار بن قصي بن كلاب، واليهم نسبة العبدري.
اختلفت الآراء في أصله، فبعض مترجميه (8) عَدُّوه أندلسياً هاجر من الأندلس أيان اشتعالها بالحروب والفتن، واستقر في "حاحة" على شاطئ المحيط الأطلسي.
وبعضهم (9) يرى أن أسرة العبدري كانت تقطن في بلنسية، ثم هاجرت إلى المغرب، وأقامت، وفيها كانت ولادة المؤلف.
ولعل نشأة العبدري في "حاحة" هي التي حملت الأستاذ محمد الفاسي على القول: إن العبدري مغربي لا أندلسي (10) .
وليس بين أيدينا ما يرجح أحد القولين، وان كنا لا نلمس في رحلته ولا في شعره ذكرا للأندلس يدل على تعلق العبدري بها، على حين انه كان يذكر مراكش على أنها موطنه. (11)
وإذا نظرنا إلى تراجم العبدريين في المصادر الأدبية، وكتب التراجم المختلفة فإننا نجد أن موطنهم بلنسية (12) ، ولعل هذا الأمر هو الذي حمل بعضهم إلى رد نسبته إلى الأندلس، غير أن من رحل من المشرق من بني عبد الدار سكنوا بلنسية، فمن المحتمل أن يكون اصل قوم الرجل
أقاموا في الأندلس، غير أن أهله الادنيين رحلو ا إلى المغرب و أقاموا في حاحة، وثمة ولادته ونشأته كما سلف.
قام العبدري برحلته في الخامس والعشرين من ذي القعده عام ثمانية وثمانين وستمائة، وكان عندها في عنفوان عمره كما قال له شيخه أبو زيد الدباغ (13) .فإذا فرضنا انه كان حينذاك في الخامس والأربعين لأنه قال عن ابن خميس التلمساني - الذي كان - حين لقبه بتلمسان في الثامنة والثلاثين من عمره - بأنه "فتي السن" فتكون ولادته زهاء سنة (643 هـ) ونظن أن وفاته كانت بعد سنة (700 هـ) وهذا قريب مما قدمه الدكتور عمر فروخ، إذ جعل وفاته سنة (720 هـ) (15)
ويبدو أن الأمر قد التبس على الزركلي إذ صنع ترجمتين متتاليتين للعبدري على انه شخصان مختلفان (16) ووقع في الوهم نفسه عمر رضا كحالة، والحقيقة أن الترجمتين هما للعبدري صاحب الرحلة.
وثمة خلاف آخر في كنية الرجل، فبعضهم يكنيه أبا محمد (18) ، وبعضهم الآخر أبا عبد الله (19) ، ولا حاجة للإطالة في الحديث عن هذا الخلاف، فكنية الرجل هي أبو عبد الله كما وردت في صدر النسخ المخطوطة للرحلة، وكناه بها أيضا البلوي الذي أورد له أبياتا ثانية في رحلته. (20)
أما الكنية الأخرى فقد تأتت من ذكره لابنه محمد في رحلته. ولا يعضدها أي دليل آخر.
ثقافته
لا يذكر العبدري شيئا عن دراسته الأولى، ولا تسعفنا المصادر بمعرفة بدايات تكوينه الثقافي. ولا يستبعد انه تتلمذ على يد والده، ودخل الكتاب في بلدته "حاحة" ، فحفظ القران الكريم، وتعلم على الطريق المتبعة عصرئذٍ من التدرج في حفظ المتون، وتعلم العمليات الحسابية، ثم ارتقى إلى أن أصبح من الطلاب، فانتقل حينئذ إلى مراكش التي كانت مركزا علميا مرموقا فاخذ، عن علمائها ما استطاع وذكر منهم محمد بن علي بن يحيى الشريف (21) .
وقد أفاد العبدري من كثرة مشايخه وتنوع ثقافتهم، فجاءت ثقافته منوعة شاملة كثير من الفنون، وهذا ما ظهر جليا في رحلته الذي يظهر فيها المؤلف حافظا القران والحديث، مطلعا على الأدب العربي نثره مشعره وخطبه ورسائله، عارفا بأيام العرب وغزواتهم، وفصحاء
خطبائهم وله معرفة بالأسماء والألقاب والكنى، وأسماء الأماكن وبمصطلحات علوم الأدب والبلاغة والعروض.
ولعل في سرد أسماء الشيوخ الذين التقاهم في رحلته وما أخذ عن كل واحد منهم ما ينهض دليلاً على سعة ثقافته وتنوعها:
1 - محمد بن صالح الكناني الشاطبي (22) (ت 699 هـ) وكان عالما بالحديث، لقيه العبدري في بجاية، وقرأ عليه بعض كتاب "الموطأ" وبعض كتابي "التيسير" و "المقنع" لأبي عمر الداني (ت 444 هـ) وجميع قصيدة الشاطبي في القراءات وبعض كتاب "شمائل النبي" للترمذي، وبعض كتاب "رياضة المتعلمين" للحافظ أبى نعيم (ت 430 هـ) وكتاب "فضل قيام الليل" و "فضل تلاوة القران" للإمام أبي بكر الآجري، كما قرأ عليه "قصيدة معراج المناقب" لابن أبي الخصال، وأنشده بعض شعر ابن برطلة (ت 661 هـ) وأجازه إجازة عامة.
2 - الحسن بن بلقاسم بن باديس (23) (ت 688 هـ) لقيه في قسنطينة، وسمع عليه صدرا من "الموطأ"
3 - حسين بن محمد الطبلي (24) (ت 688 هـ) لقيه في باجة وقرأ عليه بعض كتاب "المقرب في النحو" لابن عصفور.
4 - أبو محمد بن هارون (25) (ت 702 هـ) لقيه العبدري في تونس عند الورود والصدور، وقرأ عليه بعض كتاب "الموطأ" وبعض كتاب "التيسير" للداني، ودولا من "صحيح مسلم" ، وقرأ عليه "فهرسة جده أبى جعفر بن خلصه الحميري" "وفهرسة أبى القاسم بن بقي" وقرأ عليه "برمجة في أسماء شيوخه" وكتاب "الوعد والإنجاز" ، لابن الطيلسان (ت 642 هـ) ، وكتاب "درر السمط" لابن الابار (ت 658 هـ) .
5 - أبو جعفر اللبلي (ت 691 هـ) (26) : لقيه في تونس، وقر أعليه بعض "الموطأ" ، و "جامع الترمذي" ، وكتاب "شمائل النبي" و "قصيدة الشاطبي في القراءات" و: كتاب التيسير "للدلني، وأجازه إجازة عامة.
6 - أبو عبد الله بن هريرة (ت بعد 691 هـ) (27) : لقيه في تونس، وقرأ عليه كتابه الذي جمعه في" وفيات المشاهير "، وقرأ عليه" القصيدة الشقراطسية " لأبي محمد الشقراطسي (ت 466 هـ) .
7 - أبو زيد الدباغ (ت 699 هـ) (28) : عالم بالحديث والفقه، لقيه العبدري في القيروان، وقرأ عليه بعض أحاديثه الثنائية الإسناد من حديث مالك بن أنس، وبعض أحاديثه التساعية، وناوله "الأحاديث الأربعين في عموم رحمة الله لسائر المؤمنين" ، وسمع عليه كثيرا من الأحاديث والشعر.
8 - أبو العباس الغماز (ت 693 هـ) (29) : لقيه في تونس، وأخذ عنه "جامع البخاري" وسمع عليه دولا من "الموطأ" و "صحيح مسلم" و "سنن أبى داوود" و "جامع الترمذي" ، وقرأ عليه "أكثر التيسير" لأبي عمرو الداني، وقرأ عليه "برنامجه في أسماء شيوخه" ، وسمع منه دولاً من كتاب "الاكتفاء في مغازي رسول الله سلم ، و "مغازي الثلاثة الخلفاء" لأبي الربيع بن سالم (ت 634 هـ) ، وكتاب "مفاوضة القلب العليل" لأبي الربيع بن سالم (ت 634 هـ) ، و "دولا من التيسير" لأبي عمرو الداني، وأجازه إجازة عامة.
10 - أبو الحسن بن رزين المرسي (ت 692 هـ (( 31) : له عناية في الأدب، لقيه في تونس فقرأ عليه "فهرسته في أسماء شيوخه" وكتاب "الصلة" لابن بشكوال، وقرأ عليه "الأمثال الكامنة في القران" ، وأجازه إجازة عامة.
11 - أبو الحسن التجاني (ت 714 هـ) (32) : لقيه في تونس في الورد والصدور، فقرأ عليه "المقامة الدوحية" لمحمد بن عياض الليثي، وقصيدة "ابن الأبار السينية" و "مقامات الحريري" ، و "رياضة المتعلمين" للحافظ أبى نعيم.
12 - أبو العباس احمد بن محمد بن ميمون الأشعري المالقي (ت 688 هـ) (33) : لقيه العبدري في تونس، وقرأ عليه أشعاره في الزهد، وقصيدته التي نظمها في مدح الرسول سلم
13 - عبد الله بن يوسف بن موسى الخلاصي الأندلسي (ت 697 هـ) (34) : لقيه في تونس وقرأ عله "الأربعين حديثا" لابن مسدي (ت 697 هـ) ، وكتاب "الإعلام بقواعد الإسلام" للقاضي عياض بن موسى، و "مختصر السيرة" لأحمد بن فرس اللغوي، وكتاب "المغني في حصر الأحاديث الضعيفة" لأبي حفص عمر بن بدر الحنفي (ت 622 هـ) وأنشده كثيرا من الشعر.
14 - محمد بن أبى القاسم القسي: (ت 708 هـ) (35) : لقيه في تونس، وقرأته جزء في "فضيلة من اسمه محمد وأحمد" وهو مجموع يشتمل على مجموعة من الأحاديث الضعيفة.
15 - جابر بن محمد الوادي آشي (ت 694 هـ) (36) : لقيه العبدري في تونس، وقرأ عليه قصيدة "الشاطبي في القراءات" ، و "أرجوزة السخاوي في المتشابه من ألفاظ القرآن" وأجازه إجازة عامة.
16 - أبو القاسم بن زيتون (ت 690 هـ) (37) : لقيه في تونس، وأجازه إجازة عامة بكل ما يجمله.
17 - يوسف بن إبراهيم بن عقاب الجذامي (ت 692 هـ) (38) : لقيه في تونس، وسمع عليه أحاديث من الموطأ و "جامع البخاري" و "سنن الدارقطني" .
18 - أبو العباس البطرني (ت 703 هـ) (39) : لقيه في تونس، وقرأ عليه "الأربعين حديثا المسلسلة" لأبي الحسن بن المفضل المقدسي (ت 611 هـ) ، وأجازه إجازة عامة.
19 - أبو عبد الله بن صالح (ت بعد 688 هـ) (40) : لقيه في تونس وقرأ عليه برنامجه في أسماء شيوخه وبعض "درر السمط" لابن الأبار، وبعض كتاب "المحتوي على الشواذ من القراءات" ، وكتاب "القربة إلى رب العالمين في فضل الصلاة على سيد المرسلين" و "مختصر حلية الأولياء" وكتاب "المصابيح" تأليف الحسين بن سعود (ت 642 هـ) .
20 - أبو الحسن بن المنير (ت 691 هـ) (41) : لقيه العبري في الإسكندرية، وقرأ عليه بعض شرحه على البخاري، "و الأربعين حديثا البلدانية" للإمام أبى طاهر السلفي (ت 576 هـ) ، وقرأ عليه بعض الجزء الثاني من المختصر ابن الحاجب في الفقه على مذهب الإمام مالك.
21 - تاج الدين الغرافي (ت 704 هـ) (42) : لقيه في الإسكندرية، وقرأ عليه ثلاثيات البخاري "وسمع منه صحيح البخاري" ، وسمع منه بعض الشعر وقرأ عليه بعض كتاب "شرح الو صيد في شرح القضيد" للسخاوي. وقيد اسم العبدري ونسبته في برنامج شيوخه.
22 - محيي الدين المازوني (ت 693 هـ) (43) : لقيه في الإسكندرية وسمع عليه كثيرا من شعره.
23 - شرف الدين الدمياطي (ت 705 هـ) (44) : لقيه في القاهرة، وكتب عنه أحاديث كثيرة، وأنشده كثيرا م الشعر.
مليكة31/3/2022, 05:27