بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


أتقنا فن الأختلاف في كل شئ فأين أدابه!

أحبتي في الله
لقد اقتضت سنة الله - سبحانه وتعالى - عندما خلق البشر أن تختلف أفكارهم وآمالهم وطموحاتهم وأنماط حياتهم ومستوى معيشتهم، بل حتى في قدراتهم الفكرية والعقلية والجسمية ويختلفون أيضاً في ذوقياتهم وطعامهم وملابسهم وصورهم وألسنتهم، قال -تعالى-: (وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ)[الروم: 22)].
بل حتى على مستوى أصابع الإنسان وبنانه فلا يوجد إنسان على وجه الأرض بصماته تطابق أحد من الناس ولو كان أخاه لأمه وأبيه، قال - تعالى -: (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ)[القيامة: 3-4].

ولهذا كان سر الله -سبحانه وتعالى- في الحياة والخلق وجود هذا التنوع الذي جعله في الحياة قدراً، وكتبه في الدين شرعاً، فالناس يختلفون وتتباين وجهات نظرهم وأفكارهم وهكذا هي سنة الحياة في جميع جوانبها ذلك أن الحياة بدون اختلاف رتيبة مملة، وتخيلوا أن كل شيء في الحياة مثل بعضه؛ أشكال الناس وصورهم، كلماتهم ولباسهم، حركاتهم وتصرفاتهم، الطرق والبيوت والأشجار والأحجار، كلها لو كانت نمطاً واحداً لكانت جحيماً لا تطيقه النفوس.

إن الاختلاف المحمود والذي ينبغي أن نحسن التعامل معه وعلى الجميع أن يستوعبه هو ذلك الاختلاف الذي تتنوع فيه الآراء والأفكار والمقترحات والتصورات في فروع الشريعة، وجوانب الحياة، والعلاقات والمعاملات، دون أن ينتج عن ذلك بغضاء ولا شحناء ولا عداوة ولا قطيعة، ولا استبداد بالرأي، وهو ذلك الاختلاف الذي يقود إلى النجاح، ويحقق الأهداف، وتثمر عنه الإنجازات، ويبحث فيه الناس عن الأصوب والأفضل من الآراء والأفكار والمقترحات، والاختلاف المحمود هو ذلك الاختلاف الذي لا يفسد للود قضية، ويسمع فيه كل طرف من الآخر، وتحفظ فيه الحقوق، وتصان فيه الأعراض.

إن للاختلاف في الآراء ووجهات النظر والمواقف والأحداث آداباً ينبغي الالتزام بها، والتعامل بها، حتى تكون سلوكاً وثقافة في الحياة، تتربى عليها الأمة، وتنهض من خلالها، وتقوى روابطها، ويدم ودها، مهما تعددت الآراء، وتباينت المواقف.

فمن هذه الآداب: أن يكون الاختلاف على سبيل الوصول إلى الحق خالصاً لوجه الله، وأن لا يفسد للود قضية، فنختلف.
هذا الإمام الشافعي، قال عنه يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي؛ ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: "يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا، وإن لم نتفق في مسألة"؟! وهذا الإمام أحمد يسأله ابنه عن الشافعي ومع أنه كان يختلف معه في كثير من مسائل الفقه، لكنه قال: "كان - رحمه الله - كالشمس للدنيا.

الثاني من الصحة عند الآخرين، ذلك أنه يجب علينا أن نحترم عقول الآخرين وقدراتهم.
ومن هذه الآداب: حفظ اللسان، وعدم الاستطالة في الأعراض، ولين القول وسعة الصدر فكيف بإخوانك من المسلمين وزملائك وأصدقائك وموظفيك وأبناء قبيلتك؟

ومن هذه الآداب: الصبر والحلم وعدم التسرع في الرد والعدل مع المخالف والرجوع إلى الحق ولو كان مع الخصم.
ومن آداب الاختلاف في الرأي، وفي أمور الدنيا ووجهات النظر، سوى كان ذلك في مسائل العلم أو السياسة أو الاقتصاد أو التعليم: التحاور، وعرض الحجج وبيان الفهم لكل طرف مع أدلته، والبحث عن مصالح الأمة الكبرى، والاتفاق على الثوابت كالدين ووحدة الصف ومصالح البلاد والعباد، وأمن الأوطان، وطرق التداول السلمي للسلطة، وشكل النظام السياسي للبلاد.
هذه بعض من آداب الاختلاف، ينبغي أن تتربى عليها الأمة حكاماً ومحكومين، أحزابا وجماعات، علماء وأكاديميين، وأصحاب فكر ورأي، صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءاً.

أحبتي في الله لقد أتقنَّا فنَّ الاختلاف في كل شيء، في الأمور الكبيرة والصغيرة، وفي جوانب الحياة المختلفة وافتقدنا آداب الاختلاف والالتزام بأخلاقياته، فكان أن سقطنا فريسة التآكل الداخلي والتنازع الذي أورثَنا الشقاق والصراع والضعف، قال - تعالى -: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46].
وحذرنا الله - تعالى - من السقوط في علل أهل الأديان السابقة، وقصَّ علينا تاريخهم للعبرة والحذر، فقال: (وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم: 31- 32].
واعتبر الاختلاف الذي يسبِّب الافتراق والتمزُّق ابتعادًا عن أي هدي للنبوة أو انتساب لرسولها- mسلم - حين قال - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)الأنعام: 159].
فاللهم خذ بنواصينا إلى كل خير وألف بين قلوبنا وأصلح ما فسد من أحوالنا.. قلت ما قرأتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

أحبتي في الله : انظروا إلى الأمم من حولنا في الشرق والغرب، في أمريكا وأوربا واليابان وكوريا، وفي الصين وكندا واستراليا، وغيرها من البلاد، تجد أنه ما من دولة أو أمة من الأمم إلا وبين أبنائها وفئاتها من الاختلافات الشيء الكثير، لكنها استطاعت أن توظفها في بناء مجتمعاتها وتطورها، والحفاظ على وحدتها وقوتها، حتى في إسرائيل ذلك العدو المتاخم القريب، فيه: اليمين المعتدل، واليمين المتطرف، واليسار، والصقور والحمائم، والأحزاب المختلفة التي تجتمع كلها في "الكنيست"، وتوظف تلك الخلافات لمصلحة حاضر هذا الكيان الصهيوني ومستقبله.

الكل يختلف، لكن هذا الاختلاف يصب في مصلحة البلاد والوطن والأمة فيربح الجميع، فكيف يمكن أن نختلف في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أفراداً وجماعات وأحزاب وفئات ونربح جميعاً؟ ودون أن نخسر علاقاتنا ومصالحنا وثوابتنا؟ ودون أن يتعطل الإنتاج ويتوقف العمل وتتضرر البلد ويذهب الأمن وتختفى المودة؟
فهل من عودة إلى تحكيم الدين والعقل، وتقديم مصالح الأمة على مصالح الأشخاص والفئات والجماعات في حل خلافاتنا.
وهل من عودة إلى أخلاق الإسلام وآدابه وقيمه؟
وهل يمكن أن نربي أنفسنا على ثقافة الاختلاف وآدابه، في البيوت والمدارس وأماكن العمل والشارع وفي السوق وفي المنتديات وشبكة التواصل الاجتماعي والجامعات .... الخ؟

إنه ينبغي أن يحدث ذلك ليستمر البناء والعطاء في حياة المجتمعات، وحتى تتلاقح الأفكار والرؤى وينتج عن ذلك مشاريع وبرامج تخدم البلاد والعباد وحتى ندرك جميعاً أن الاختلاف سنة إلهية، لا يمكن أن تنتهي أو تختفي أو تتلاشى من أي مجتمع، والمهم كيف نغلب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وكيف نوطن نفوسنا على قبول الحق من أي إنسان، وأن لا تأخذ أحدنا العزة بالإثم، فيستمر في خطئه وظلمه وفجوره وعناده، فيكون سبباً في شقاء أمته ومجتمعه.

إننا نستطيع أن نقوم بذلك كما قام أسلافنا، فأسسوا حضارة وبنوا مجداً، ونشروا عدلاً، وأورثوا علماً، وصدروا قيماً وأخلاقاً، ووظفوا كثيرا من اختلافاتهم على مدار حقب من التاريخ لما يعود نفعه وخيره على مجتمعاتهم، فكانوا مفاتيح خير لأمتهم، مغاليق للشرور في مجتمعاتهم.
ونحن نستطيع كذلك إذا صدقنا التوجه، وحُسن العمل، وأدركنا مسئولياتنا تجاه ديننا وأمتنا وأوطاننا، واستوعبنا الدور الحضاري الذي ينبغي أن نقوم به كقدوة ونماذج فاعلة يحتذي بنا العالم من حولنا، كأصحاب رسالة ومشروع يسع الناس جميعاً.

والحوار هو الطريق والمدخل لحل المشاكل، وتجاوز الخلافات، وإننا أصحاب حكمة كمسلمين، إذا أخلصنا القصد، وصدقنا النية، ونظرنا إلى مصالح البلاد والعباد.

اللهم بك آمنا، وعليك توكلنا، وإليك أنبنا، فاغفر لنا وارحمنا، وأنت أرحم الراحمين.
أهدنا سبلنا، وألف بين قلوبنا، ووفقنا إلى كل خير.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين.