قال ابن القيم رحمه الله:
"ولم يأت الحزن في القرآن إلا منهيا عنه أو منفيا، فالمنهي عنه : كقوله تعالى :
{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا } [آل عمران: 139].
وقوله : {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } [النحل : 127] فى غير موضع.
وقوله : {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] .
والمنفي كقوله : {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة: 38].
وسر ذلك : أن الحزن موقف غير مسير، ولا مصلحة فيه للقلب، وأحب شيء إلى الشيطان :أن يحزن العبد ليقطعه عن سيره ويوقفه عن سلوكه، قال الله تعالى :
{إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا } [المجادلة: 10].
ونهى النبي الثلاثة أن يتناجى اثنان منهم دون الثالث، لأن ذلك يحزنه، فالحزن ليس بمطلوب ولا مقصود، ولا فيه فائدة.
وقد استعاذ منه النبي سلم فقال: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن" فهو قرين الهم والفرق بينهما :
أن المكروه الذي يرد على القلب إن كان لما سيتقبل : أورثه الهم، وإن كان لما مضى : أورثه الحزن وكلاهما مضعف للقلب عن السير، مقتر للعزم، ولكن نزول منزلته ضروري بحسب الواقع، ولهذا يقول أهل الجنة إذا دخلوها : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34]
فهذا يدل على أنهم كان يصيبهم في الدنيا الحزن كما يصيبهم سائر المصائب التي تجري عليهم بغير اختيارهم.
وأما قوله تعالى : {لَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] فلم يمدحوا على نفس الحزن، وإنما مدحوا على ما دل عليه الحزن من قوة إيمانهم، حيث تخلفوا عن رسول الله لعجزهم عن النفقة، ففيه تعريض بالمنافقين الذين لم يحزنوا على تخلفهم بل غبطوا نفوسهم به.
وأما قوله في الحديث الصحيح : "ما يصيب المؤمن من هم ولا نصب ولا حزن إلا كفر الله به من خطاياه، فهذا يدل على أنه مصيبة من الله يصيب بها العبد يكفر بها من سيئاته لا يدل على أنه مقام ينبغي طلبه واستيطانه.
وأما حديث هند بن أبي هالة في صفة النبي سلم متواصل الأحزان فحديث لا يثبت وفي إسناده من لا يعرف.
وكيف يكون متواصل الأحزان وقد صانه الله عن الحزن على الدنيا وأسبابها؟
ونهاه عن الحزن على الكفار وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
فمن أين يأتيه الحزن؟
بل كان دائم البشر ضحوك السن، كما في صفته سلم: الضحوك القتال صلوات الله وسلامه عليه.
وأما الخبر المروي : "إن الله يحب كل قلب حزين" فلا يعرف إسناده، ولا من رواه، ولا تعلم صحته، وعلى تقدير صحته :
فالحزن مصيبة من المصائب التي يبتلي الله بها عبده، فإذا ابتلى به العبد فصبر عليه أحب صبره على بلائه.
وأما الأثر الآخر: "إذا أحب الله عبدا نصب في قلبه نائحة، وإذا أبغض عبدا جعل في قلبه مزمارا" فأثر إسرائيلي قيل : إنه فى التوراة.
وله معنى صحيح، فإن المؤمن حزين على ذنوبه، والفاجر لاه لاعب مترنم فرح.
وأما قوله تعالى عن نبيه إسرائيل : {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } [يوسف: 84] فهو إخبار عن حاله بمصابه بفقد ولده وحبيبه وأنه ابتلاه بذلك، كما ابتلاه بالتفريق بينه وبينه.
وأجمع أرباب السلوك : على أن حزن الدنيا غير محمود إلا أبا عثمان الحيري فإنه قال : الحزن بكل وجه فضيلة وزيادة للمؤمن ما لم يكن بسبب معصية قال : لأنه إن لم يوجب تخصيصا فإنه يوجب تمحيصا فيقال : لا ريب أنه محنة وبلاء من الله بمنزلة المرض والهم والغم، وأما أنه من منازل الطريق : فلا والله سبحانه أعلم.
مدارج السالكين (1 / 505-507)
أ.د. عاصم بن عبدالله القريوتي