ويسألونك عن الروح... قراءة جديدة
وردت كلمة الروح في القرآن الكريم، في مواطن عديدة، وفي كل موطن يتعين المعنى المراد من خلال السياق. وفي هذه الدراسة - بعد تحديد تلك المعاني - محاولةٌ لتسليط ضوء جديد على (الروح) في آية الإسراء: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}. ما المراد به: هل هو روح الإنسان، الذي لا تزال النفوس تشرئب إلى معرفته، والذي لا ينفك الجدل يتجدد حول حقيقته وماهيته، أم هو شيء آخر غير ذلك؟ فلنترك الأمر للبحث. (الروح: يذكَّر ويؤنَّث)أولاً- من السائلون؟
للمفسرين في سبب نزول هذه الآية الكريمة قولان: أحدهما: روى أحمد والبخاري (واللفظ له) ومسلم والترمذي عن عبد الله بن مسعود – رَضيَ اللهُ عنه – قال: «كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَرْثٍ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ، فَمَرَّ بِقَوْمٍ مِنَ اليَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ تَسْأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَسَأَلُوهُ، فَقَامَ مُتَوَكِّئاً عَلَى العَسِيبِ، وَأَنَا خَلْفَهُ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقَالَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: قَدْ قُلْنَا لَكُمْ لاَ تَسْأَلُوهُ».والثاني: روى أحمد والترمذي عن ابن عباس – رَضيَ اللهُ عنهما - قال: «قَالَتْ قُرَيْشٌ لِيَهُودَ: أَعْطُونَا شَيْئاً، نَسْأَلُ هَذَا الرَّجُلَ، فَقَالَ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَسَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}. قَالُوا: أُوتِينَا عِلْمًا كَثِيرًا، أُوتِينَا التَّوْرَاةَ؛ وَمَنْ أُوتِيَ التَّوْرَاةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، فَأُنْزِلَتْ {قُلْ لَوْ كَانَ البَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109]. قال الترمذي: «هذا حديث حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجه». وأخرجه الحاكم أيضاً في (المستدرك) تحت تفسير سورة (القدر)، وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه».
المناقشة: حديث ابن مسعود يفيد أن الذين سألوا عن (الروح) هم اليهود، وهذا يتضمن أن السؤال قد وقع في المدينة. وهذا أمر مشكل؛ لأن السورة كلها مكية، أي: أنها نزلت قبل الهجرة، ولأن اليهود لم يجتمعوا بالرسول – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إلا في المدينة.
أما حديث ابن عباس فيفيد أن الذين سألوا عن (الروح) هم قريش، ولكن بإشارة من اليهود. ويقوي هذا الاتجاه كونُ السورة كلها مكية، وسياقها كله مع قريش، واليهود إنما اجتمعوا به في المدينة. إلا أنه ينطوي أيضاً على إشكال، وهو ظهور اليهود فجأة في المشهد، وهذا ما يشير إليه القسم الثاني من حديث ابن عباس: (قَالُوا: أُوتِينَا عِلْمًا كَثِيرًا...).
وقد أشار ابن كثير - في تفسره - إلى الإشكال في حديث ابن مسعود، ثم أجاب عنه، فقال: «هذا السياق يقتضي - فيما يظهر بادي الرأي - أن هذه الآية مدنية، وأنها إنما نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة، مع أن السورة كلها مكية. وقد يجاب عن هذا: بأنه قد يكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية، كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك، أو أنه نزلَ عليه الوحيُ بأنه يجيبهم عما سألوا بالآية المتقدم إنزالها عليه، هي هذه الآية: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ}.
والمعنى: أن السؤال تكرر وقوعه، مرة من قريش في مكة، ومرة ثانية من اليهود في المدينة، فكرر الله تعالى إنزال آية {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ}، أو أمر نبيه، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وهو في المدينة - أن يتلوها على اليهود؛ ليعلم أنهم وقريشا سواء في قلة العلم، بمعنى: أن السؤال إذا تكرر فجوابه واحد لا يتغير، سواء كان السائل من قريش أم من اليهود.
وقد وافق ابنُ حجر العسقلاني ابنَ كثير في الجمع بين الحديثين بتعدد النزول، وأن ذلك جائز، إلا أنه مال إلى ترجيح رواية ابن مسعود، فقال: «ويمكن الجمع بأن يتعدد النزول، بحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك، وإن ساغ هذا، وإلا فما في الصحيح أصح»؛ وجه ذلك أن ما اتفق عليه الشيخان (البخاري ومسلم) يقدم على غيرهما، ولأن ابن مسعود حضر القصة، بخلاف ابن عباس.
أما الإشكال الثاني – وهو الموجود في حديث ابن عباس - فيمكن الإجابة عنه بأن السؤال بذيوله تكرر من اليهود في المدينة، أو أن ابن عباس – رَضيَ اللهُ عنه – طوى الزمن، فجمع بين موقف قريش السابق، وموقف اليهود وهم في المدينة، في سياق واحد، فأدرج اعتراض اليهود - الذي يفترض أنه حصل في المدينة - على سؤال قريش، وهم في مكة، خاصة إذا علمنا أن كثيراً من مرويات ابن عباس إنما هي عن كبار الصحابة، فقد ولد في مكة قبل الهجرة بثلاث سنوات.هذا ما يتعلق بهوية السائلين عن الروح، أما بيان المراد من (الروح) المسؤول عنه في الآية فلا بد - قبل ذلك - من بيان معنى (الروح) ومعنى (الأمر) أولاً.
*** *** ***
ثانياً- أوجه ورود الروح في القرآن الكريم
للفظ (الروح) في اللغة معانٍ متعددة، والذي يحدد المراد منه السياق، أو القرينة، أو هما معاً، وقد ورد (الروح) في القرآن على خمسة أوجه:ثانياً- أوجه ورود الروح في القرآن الكريم
أحدها: الوحي.
ووصف الوحي بأنه روح؛ لأنه يحيا به الناس من الجهلِ وموتِ الكفر ،كما يحيون بالأرواح.
1- قال الله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ...} [النحل: 2- 3]
(بالروح): أي: بالوحي. روى الطبري عن الربيع بن أنس، في قوله {يُنزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ} قال: كل كلِمٍ تكلم به ربنا فهو روح منه {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} إلى قوله {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى: 52- 53].
(عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ): أي: على الأنبياء والرسل. (و(أَنْ أَنْذِرُوا...) في موضع جر على البدل من الروح، والتقدير: ينزل الملائكة بأن أنذروا أهل الكفر والمعاصي، أي: حذروهم بأنه {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}، أي: فاتقوا عقوبتي، لمن خالف أمري وعبد غيري. ثم زاوج بين الأمر والخلق، فقال بعد ذلك: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ...).
2- وقوله تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر: 15] فالروح هو الوحي، وهو الكتاب، وهو النبوة.
روى الطبري عن ابن زيد في قوله: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، وقرأ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] قال: هذا القرآن هو الروح، أوحاه الله إلى جبريل، وجبريل روح نزل به على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقرأ: {نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ} [الشعراء: 153] قال. فالكتب التي أنزلها الله على أنبيائه هي الروح؛ لينذر بها ما قال الله يوم التلاق».
و(يَوْمَ التَّلَاقِ): اسم من أسماء يوم القيامة، حذر الله منه عباده، فهو يومٌ يلتقي فيه العباد، والظالم والمظلوم، وأهل السماء وأهل الأرض، والخالق والمخلوق.
3- وقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] أي: كما أوحينا إلى الرسل من قبلك كذلك أوحينا إليك – يا محمد – هذا القرآن من أمرنا. قال القرطبي: سماه (روحاً)، لأن فيه حياةً من موتِ الجهل. وجعله (من أمره) بمعنى: أنزله كما شاء، على من يشاء، من النظم المعجز، والتأليف المعجب.
وقال الأصفهاني في (المفردات): وسمّي القرآن رُوحاً في قوله: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا}؛ وذلك لكون القرآن سبباً للحياة الأخرويّة الموصوفة في قوله: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ} [العنكبوت: 64]
الثاني: جبريل، عليه السلام.
حيث يسمَّى أشرافُ الملائكة أرواحاً، ومن ألقاب جبريلٍ الروحُ الأمين، وروحُ القدس:
1- قال الله تعالى في قصة مريم، عليها السلام: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17] والروح: هو جبريل. والإضافة للتشريف والتكريم.
2- وقال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البثرة: 97].
3- وقال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 192- 194]
4- وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ...} [النحل: 102]. وقال تعالى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 87، 253]
الثالث: روح الإنسان.
أي: الروح الذي يحيا به بدن الإنسان. وقد ورد ذلك في موضعين فقط: في قصتي خلق آدم، وخلق عيسى، عليهما الصلاة والسلام. وفي الموضعين اقترن الروح بالنفخ.
1- قال الله تعالى في خلق آدم: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29، ص: 72] وقال: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ...} [السجدة: 9]
2- وقال تعالى في قصة مريم: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91]. وقال: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12]
والذي باشر النفخ جبريل، فأضيف النفخ إلى الله أمراً وإذناً، وإلى الرسول مباشرة، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)...} [مريم: 17- 19]
وإضافة الروح إلى الله تعالى في كل ما سبق إنما هو إضافة مخلوق إلى خالقه، وهي إضافة تقتضي تخصيصاً وتشريفاً، يتميز به المضاف عن غيره، كقوله {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج: 26] وقوله:{يا عِبادِيَ} [العنكبوت: 56، الزمر: 53] وقوله: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي} [سبأ: 45]
قال الراغب في (المفردات): «وإضافته إلى نفسه إضافة مِلكٍ، وتخصيصُه بالإضافة تشريفاً له وتعظيماً».
الرابع: الرحمة.
قال الله تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22]، أي: قوَّاهم وثبَّتهم ونصرهم برحمة من عنده.
الخامس: عيسى، عليه السلام.
سُمِّي عيسى - عليه السلام - روحاً؛ لأنه لم يكن له أب تولَّد منه، بل خلق بكلمة (كن). وقيل: سُمِّي بذلك؛ لأن جبريل - عليه السلام - نفخ فيه الروح بإذن الله, (والنفخ) في اللغة يُسَمَّى روحاً, فكان عن النفخ، فسمي به. وقيل: سمي بذلك؛ لما كان له من إحياء الأموات بإذن الله. وكلها معانٍ متداخلة، ومتولدة بعضها عن بعض.
قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ، لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ، وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، رَسُولُ اللَّهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ؛ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ، انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ، إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 171].
- {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ}: هي قوله: (كُنْ) فكان، وهي الكلمة التي جاء بها جبريل إلى مريم، فنفخ فيها بإذن الله، فكان عيسى - عليه السلام - قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].
قال ابن كثير: (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ)، أي: خلقه بالكلمة التي أُرسِل بها جبريلُ - عليه السلام - إلى مريمَ، فنفخ فيها من روحه بإذن ربه - عز وجل - فكان عيسَى بإذن الله - عز وجل - وصارت تلك النفخةُ - التي نفخها في جيب درعها، فنزلت حتى ولجت فرجها - بمنزلةِ لقاحِ الأبِ الأمَّ، والجميعُ مخلوق لله - عز وجل - ولهذا قيل لعيسى: إنه كلمةُ الله وروحٌ منه؛ لأنه لم يكن له أب تولَّد منه، وإنما هو ناشئٌ عن (الكلمةِ) التي قال له بها: كن فكان، و(الروحِ) التي أُرْسِل بها جبريلُ.
روى بن أبي حاتم في (تفسيره) عن شاذِّ بن يحيى في قوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} قَالَ: ليس الكلمةُ صارتْ عيسى، ولكنْ بالكلمة صار عيسى.
قال الزمخشري في (الكشاف): «وقيل لعيسى: (كلمةُ اللَّه) (وكلمةٌ منه)؛ لأنه وجد بكلمته وأمره لا غير، من غير واسطة أب ولا نطفة. وقيل له: (روحٌ اللَّه) (وروح منه)؛ لذلك؛ لأنه ذو روح وجد من غير جزء من ذي روح، كالنطفة المنفصلة من الأب الحىّ وإنما اُخترعِ اختراعاً من عند اللَّه، وقدرته خالصة. ومعنى {أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ} أوصلها إليها، وحصَّلها فيها.
- {وَرُوحٌ مِنْهُ}: أي: إنه كان إنسانًا بإحياء الله له بقوله: (كن). وكلمة (مِنْه) ليست للتبعيض، كما تقول النصارى، بل هي لابتداء الغاية، كما في قوله تعالى: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [سورة المجادلة: 22]، أي: برحمة من عنده، وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]، أي: من خلقه، ومن عنده. فعيسى – عليه السلام – مخلوق من روح مخلوقة، وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله، في قوله: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} [هود: 64] وقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج: 26] وهذا كله من قبيل واحد، ونمط واحد.
وقد يراد بـ (وَرُوحٌ مِنْهُ)، أي: ورحمة منه، فكان عيسى - عليه السلام - رحمةً لمن اتبعه، كما كان كلُّ نبي بما أوحى الله إليه رحمةً لقومه وأمته، وكما كان رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – رحمة للأمم والبشرية جميعاً، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]
*** *** ***
ثالثاً- أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ...
قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
ثالثاً- أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ...
قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
(الْخَلْقُ) مصدر: خلق يخلُق خلقاً. (وَالْأَمْرُ) مصدر: أمر يأمُر أمراً. فالعطف يقتضي التغاير. فـ(الْخَلْقُ) المخلوقات.
(وَالْأَمْرُ): الحال والشأن، وجمعه (أمور)، ومنه:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]، (وَالْأَمْرُ): الطلب أو المأمور به، وجمعه (أوامر)، وأمرتُه: إذا كلفتُه أن يفعل شيئاً. فالأمر ضد النهي، ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (وأولو الأمر): أصحاب الأمر والنهي، وهم الرؤساء والعلماء.
(وَالْأَمْرُ): الوحي، وهو كلام الله تعالى، قال تعالى بعد أن بين أحكام الطلاق والعدة: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} [الطلاق: 5] أي: ذلك وحيه الذي فيه حكمه وشرعه، والقرينة {أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ}.
وقال تعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] فـ(الْأَمْرُ) المنزَّلُ غيرُ الخلق، وهو وحي الله وكلامه، وهو بعض علم الله تعالى، كما أن الخلق من أثر قدرة الله تعالى.
وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ . فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت: 11- 12].
ففي هذه الآيات فرق الله تعالى بين الخلق والأمر، فمن جمع بينهما فقد جانبه الصواب؛ فالخلق: المخلوقات. وأمر الله: هو ما اشتمل عليه وحيه وكلامه من أحكام، ومواعظ، ومعانٍ كريمة، في شؤون الدنيا والآخرة.
روى أبو حاتم الرازي في (تفسيره) عن سُفيان بنِ عُيَيْنَةَ في قوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} قال: «الْخَلْقُ: هو الخلق. وَالأَمْرُ: هو الكلام». وقال ابن الجوزي في (التفسير): «قوله تعالى: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ) لأنه خلقهم (وَالْأَمْرُ) فله أن يأمر بما يشاء».