كسوف الشمس... للعظمة أم للمتعة؟
src="http://www.methak.org/ar/uploads/2072009-024646AM.jpg" width=378>
كسفت الشمس في الأسبوع المنصرم كسوفا عظيما، وحُجبت عن الأنظار فأظلمت السماء فكان المشهد رهيبا، وكانت في الحقيقة آية عظيمة، ودعوة فريدة لإعمال الأفكار وتقليب الأبصار للعبرة والاعتبار.
الكسوف أمر جلل وحدث عظيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، لأنهم في لهوهم غافلون، وعن الآيات القرآنية والإشارات النبوية والحوادث الكونية بعيدون، أما عن المشاهد الكروية والحفلات والرقصات وكل دعوات الغفلة فإنهم حاضرون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
إن هذه الآية العظيمة والحدث المفزع والأمر المروّع، قوبل في هذا العصر ببلادة حس وموت ضمير وبرودة قلب، فقد نقل شأن الكسوف من كونه آية يجب الفزع معها، والالتجاء إلى الله ربنا وربها، نقل من هذا إلى مشهد لإمتاع الناظرين، وصار موقع حدوثها قبلة للسائحين، وزمنها لحظة للأماني الباطلة ولترويج أفكار الدجالين واعتقادات المنحرفين، ومما زادها متعة، كما يزعمون، أنها لم تحدث في موقعها الأخير منذ مئات أو آلاف السنين.
لقد غفل كثير منا عن الآيات والنذر والأمارات التي تستوجب الوقفات، بل إن من الناس من لم يطرق سمعه حدث الكسوف، وإن أُخبر به هوّن من أمره وقال: شيء عادي، وقع مثله عندنا، لا ضرر له إلا لمن أمعن النظر إليه بغير نظارات واقية. ثم يمضي قدما لا يبالي، فلا سبحان الله، ولا تعجب من خلق لله، ولا فزع من أمر الله، ولا تأثر بما قد تتأثر به الدواب والجبال الراسيات، فهو حدث شبيه بأمارات يوم القيامة حيث يقول الله تعالى: (فإذا برق البصر× وخسف القمر× وجُمع الشمس والقمر× يقول الإنسان يومئذ أين المفر) (القيامة: 7،10). وقال سبحانه:(إذا الشمس كُوّرت) (التكوير:1).
وتكوير الشمس أي ذهاب نورها وذلك من العلامات الكبرى لقيام الساعة. وهذا الحدث كسوف الشمس أو خسوف القمر لا يقع على الكافرين والمخالفين للسنة الشرعية فحسب، ولا يعني ما وقع في بلاد الصين العاصين وحدهم، بل يعمّ الجميع الطائعين والعاصين، المسلمين والكافرين، والفزع للجميع. لذلك لابد أن ننتبه لهذه الآية العظيمة، ولا يجوز أن نستثني أنفسنا ونجعلها لا تعنينا، بل هي آية عامة وتخويف شامل، لأن بلاء المعصية وشؤم الذنوب لا يصيب الذين ظلموا خاصة، بل يعمّ. قال الله تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب) (الأنفال:25).
إن أمر الكسوف له شأن عظيم ليس أعظم مما دلنا عليه الدين الحنيف والعقيدة الصحيحة، فهو آية من غير زيادة تهويل أو وصفه بالطبيعي والسعي في شأنه بالتقليل، بل ينبغي الوقوف أمامه بالوعظ والتوبة والاستغفار، كما وصى بذلك النبي المصطفى المختار، سلم، فقد حدث على عهده ما حدث في عهدنا، فكيف كان تعامله؟ وما يمكن أن نستفيده من فعله وعمله؟
في الصحيحين وفي أحاديث كثيرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (خسفت الشمس في حياة النبي سلم، فخرج إلى المسجد، يجر إزاره، فصفّ الناس وراءه ثم قام يصلي... (وذكرت هيئة صلاة الكسوف كما يعملها كثير من الناس) وانجلت الشمس، ثم قام فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده... فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصلاة. ثم قال: لقد رأيت في مقامي هذا كل شيء وُعِدته، حتى لقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا، حين رأيتموني تأخرت.. يا أمة محمد، والله ما من أحد أغيَر من الله أن يزني عبده أو تزني أمته. يا أمة محمد، لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا... وقال: ورأيت النار، فلم أنظر منظرا كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بكفرهن، يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا، قالت: ما رأيت منك خيرا قط) رواه البخاري، بتصرف.
في هذا النص أوجه متعددة ثبت بها أن الغاية الشرعية من الكسوف أخذ العظة والعبرة، فانتفى الإمتاع والسياحة بها، بل فيها الخوف والفزع، وفيها أيضا التصرف الرشيد والمعرفة الحقيقية للحدث، والعقيدة الصحيحة في أسباب تقلب الكون وظهور الآيات.
فأولا: أن النبي سلم لما رأى خسوف الشمس خرج يجر إزاره، وهي حالة الخائف الفزع، فلو كانت الحادثة للمتعة لا للعبرة، فلم هذا الفزع؟ما عُهد الفزع إلا في أمر عظيم، والعظيم هذا علامة خوّف الله بها عباده هي الكسوف.
وثانيا: صلاته عليه الصلاة والسلام، فلا يدعي أحد أنها صلاة شكر على نعمة تمتع بها، بل صلاة مستغفر يرجو الرحمة ورفع العقوبة، يدل على هذا ما جاء في خطبته من التحذير.
وثالثا: قوله:(إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوّف الله بهما عباده). فهل التخويف للمتعة أيضا، أم التخويف من الذنوب؟.
ورابعا: أمره سلم الناس إذا رأوا مثل هذا أن يفزعوا للصلاة، وفي روايات أخر: للصدقة، والتكبير، والذكر، والاستغفار... فقد أمرهم بالفزع. والفزع يكون لأمر عظيم، وبالطاعة أمرهم أيضا، فمن فائدتها أنها تدفع العقوبة المترتبة على الذنب، كما قال تعالى: (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون).
وخامسا: رؤيته سلم جهنم يحطم بعضها بعضا، فما كان ليراها للمتعة، بل للتحذير والعظة. وسادسا: ذكر النبي لأنواع من الذنوب في هذا المقام كالزنا، وكفران العشير، فهذا لا يتناسب إلا مع كون الحدث للعبرة والعظة، فلو كان الحادث عرضا ليس له علاقة بالذنوب، فلمَ ينوّه بذكرها عليه الصلاة والسلام؟
نسأل الله أن لا يجعلنا من الذين قال فيهم: (فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون) (الزخرف:47).
إمام مسجد مالك بن أنس