الأسباب الجالبة لمحبة النبي -سلم-:
1- محبة الله –تعالى- والأنس بذكره وحمده وشكره على النعم الظاهرة والباطنة والله تعالى له الثناء والحمد الأتمان الأكملان، وقد يعترف المرء بالعجز عن الشكر، وكما قيل: العجز عن الشكرِ شكر، وهذا في غاية العبادة والذل مع المنعم سبحانه، والله تعالى قال في كتابه: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴿152﴾﴾ [البقرة: 152] وقد هدانا الله -عز وجل- وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وهدانا لما اختلف فيه أهل الكتاب، وهدانا لهذا الرسول الأكرم -سلم-، وهو النعمة العظمى والفخر الأسمى: ﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ﴾ [النحل: 53]، وقد جمع الله هذه النعم فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ﴿41﴾ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴿42﴾ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴿43﴾ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ﴿44﴾ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴿45﴾ وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ﴿46﴾ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيرًا ﴿47﴾﴾ [الأحزاب: 41- 47]، والذكر هو أفضل الأسباب الجالبة لمحبة النبي -سلم-.
كما ينبغي للعبد كثرة سؤال الله –تعالى- الصدق في المحبة ، والدوام والثبات على المتابعة للرسول -سلم-:
أحن بأطراف النهار صبابة وفي الليل يدعوني الهوى فأجيب
وأيامنا تفنى وشوقي زائـد كان زمان الشـوق ليس بغيـب
وعلى الإنسان أن يأنس بخلوته ليتفرغ فيها للعبادة ففيها لذة السعادة التي لا تدرك إلا بالخلوات، ولذا قال الإمام أحمد -رحمه الله-: « رأيت الخلوة أروح لقلبي » [1]، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: « إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة »، وقال في موضع آخر: « ما يصنع أعدائي بي أنا جنتي في صدري، أنَّى رحت فهي معي، أنا سجني خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة » [2]. قال ابن القيم: حدثني بعض أقارب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قال: كان في بداية أمره يخرج أحيانًا إلى الصحراء، يخلو عن الناس، لقوة ما يرد عليه، فتبعتُه يوماً فلمَّا أصحر تنفس الصعداء، ثم جعل يتمثل بقول الشاعر:
وأَخرُجُ من بين البيوت لعلَّني أُحدث عنكَ النفسَ بالسر خاليا [3]
كما أن من علامة محبة الله: ألا تفتقر إلى غيره، ولا تسأل أحداً سواه، كما يقول ذو النون المصري: « قل لمن أظهر حب الله: احذر أن تذل لغير الله، ومن علامة الحب لله ألا يكون له حاجة إلى غير الله » [4]، وقد أثنى الله على عباد له فقال: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ ﴾ [البقرة: 165].
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا لي الليلُ هَزتني إليك المضاجعُ
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ويجمعني والشوق بالليل جامعُ
ومن دلائلها: قراءة كلام الله –تعالى- وتأمله وتدبره، والخشوع عند آياته، والوقوف عند حدوده، وإقامة حروفه، والفراغ إلى النوافل بعد إقامة الفرائض كما قال تعالى في الحديث القدسي: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددتُ عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن؛ يكره الموت وأكره مساءته) [5].
وحب الله ليس كلمات تقال، ولا قصصاً تروى، وكذا محبة رسول الله -سلم-، كما أنه « لا يكون دعوة باللسان، ولا هياماً بالواجدان وكفى، بل لابد أن يصاحب ذلك: الاتباع لرسول الله -سلم-، والسير على هداه، وتحقيق منهجه في الحياة؛ فالمحبة ليست ترانيم « تغني، ولا قصائد تنشد »، ولا كلمات تقال، ولكنها طاعة لله ورسوله -سلم-، وعمل بمنهج الله الذي يحمله الرسول -سلم-، وأول ما يطالب به المؤمن أن يكون ولاؤه لله ورسوله -سلم-، ومحبته لرسوله -سلم-؛ بحيث تتجلى هذه المحبة في سلوكه وانطلاقاته، والآيات كثيرة تشير إلى هذه المفاهيم، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿31﴾ قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴿32﴾﴾ [آل عمران: 31، 32] [6].
2- تقديم محبة النبي -سلم- وأقواله وأوامره على من سواه، وتعظيم ذلك، بدءًا من المحبة القلبية وتمني رؤيته وصحبته، وانتهاءً بالعمل بشريعته ظاهراً وباطناً، عن محبة وشوق، كما قال -سلم-: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده، والناس أجمعين) [7]، ويتجلى هذا الحب إذا تعارض مع أحد هذه المحبوبات ما أحبه الله ورسوله ورضيه الله ورسوله -سلم-.
وكذا أخرج البخاري عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي -سلم- وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي -سلم-: (لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك)، فقال له عمر: فإنه الآن والله! لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي -سلم-: (الآن يا عمر) [8].
ويبلغ التشريف لمن قصد المحبة مبلغه في قول النبي -سلم-: (مِنْ أشد أمتي لي حباً ناس يكونون بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله) [9].
ومما يجلب حنان القلب إلى النبي -سلم- وتعظيمه تذكُّر ما يأتي:
أ- تذكُّر أحوال الرسول -سلم- في حرصه على أمته، ورأفته ورحمته بهم، وما لاقاه الرسول -سلم- من الأذى والكيد من المشركين في مكة والطائف، ومن اليهود والمنافقين في المدينة. وسأذكر طائفة من المواقف والنصوص، لعل فيها رقة تنبئ عن عظيم وعظمة في الظاهر والباطن. قال تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنَفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتِّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿128﴾﴾ [التوبة: 128]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].
عن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي -سلم- : أنها قالت لرسول الله -سلم-: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: ( لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بـ « قرن الثعالب » فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلنني، فنظرت إذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله -عز وجل- قد سمع قول قومك لك وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك مَلَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. قال: فناداني مَلَك الجبال، وسلَّم عليَّ، ثم قال: يا محمد ، إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما مَلَك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال رسول الله -سلم-: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئً) [10].
قال ربيعة بن عباد الدؤلي -وهو شاهد عيان-: رأيت رسول الله -سلم- بذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله -عز وجل- ، ووراء رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول: أيها الناس، لا يغرنكم هذا من دينكم ودين آبائكم. قلت: من هو؟ قالوا: أبو لهب!! [11].
عن سلمان -رضي الله عنه- قال: قيل له: قد علَّمكم نبيكم -سلم- كل شيء حتى الخراءة، قال: أجل! نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، وأن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار،أو أن نستنجي برجيع أو عظم [12].
قال رسول الله -سلم- يوم بدر عن الأسرى والقتلى: (لو كان المطعم بن عدي حياً ثم سألني في هؤلاء النتنى لوهبتهم له) [13]، لأنه كان أجار النبي -سلم- لما رجع من الطائف، وهو الذي أمر بتمزيق الصحيفة التي حاصرت بني هاشم [14].
وقد ألبس النبي -سلم- ثوبه عبد الله بن أُبيّ بن سلول، وكفَّنه فيه حين مات؛ لأنه قد كسى العباس بن عبد المطلب يوم بدر وهو أسير عريان؛ فجازاه النبي -سلم- بذلك مع أن ابن أُبيّ كان وكان.. [15].
يقال عنه « ساحر، شاعر، مجنون، صابئ، يضرب على عقبه، يخنق بسلا الجزور، تكسر رباعيته، يدمى وجهه، يتهم في بيته، يتهم في عدله وقسمه... ومع ذلك يقول: ( يرحم الله أخي موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) [16].
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي -سلم- يستسقي فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب:
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل [17]
ب- تذكُّر الأجر والأثر العاجل في الدنيا والآخرة الوارد في محبة النبي -سلم- والصلاة عليه، ومن ذلك:
وجود الحياة الطيبة بلذة الإيمان وغاية السعادة، ففي حديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -سلم-: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار) [18].
أن تمام الإيمان لا يكون إلا بمحبة النبي -سلم- وتعظيمه وتوقيره، كما في الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) [19].
وأما أصل المحبة الذي يعني الطاعة والانقياد والتسليم فلا شك في فرضيته: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴿65﴾﴾ [النساء: 65]، ولذا فلا يسع أحداً الخروج عن طاعة الرسول -سلم- والعدول عما أمر به، بل يجب الامتثال للأمر والنهي وتقديمهما على حظوظ النفس ودوافع الهوى [20].
أن في محبته -سلم- والصلاة عليه وهو من ذكر الله تفريجًا للهموم، وصلاحًا للبال، وغفرانًا للذنوب، وتكفيرًا للسيئات، قال الله –تعالى-: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ﴿2﴾﴾ [محمد: 2].
وعن أُبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -سلم- إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: (يا أيها الناس، اذكروا الله، جاءت الراجعفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه، قال أُبي: فقلت: يا رسول الله، إني أكثر من الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئت، قلت: الربع؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك، قلت: فالنصف؟ قال: ما شئت ، فإن زدت فهو خير ، قلت: فالثلثين؟ ، قال: ما شئت ، فإن زدت فهو خير ، قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذن تكفى همك ويغفر لك ذنبك) [21].
أن من أحبه كان أولى الناس به، كما قال لمن أحبه وأعدَّ هذا الحب ليوم القيامة: (أنت مع من أحببت) [22].
إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا كفى بالمطايا طِيب ذكراك حادياً
ج- تذكُّر سِماة الإسلام به وبشريعته، كما قال تعالى: ﴿ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 157]، وكما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴿107﴾﴾ [الأنبياء: 107]. وقوله -سلم-: (إنما أنا رحمة مهداة) [23]، قوله -سلم- لأبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل -رضي الله عنهما- حينما بعثهما لليمن: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلف) [24].
د- محبة ما أحبه -سلم- وبُغض ما أبغضه -سلم- في المعاملات والآداب، بل لا يستقيم حب صحيح إلا بتتبع ما أحبه المحبوب والبعد عما أبغضه ، كما قال القائل:
أريد وصاله ويريد هَجْري فأترك ما أريد لما يريد
وقول الآخر:
ولو قلت لي : متْ متُّ سمعاً وطاعة وقلت لداعي الموت أهلاً ومرحباً
وقد روي بهذا المعنى حديث: ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) [25].
إن هـواك الـذي بقلبـي صيرني سامعاً مطيعا
أخذت قلبي وغمضَ عيني سلبتني النومَ والهجوعا
فذر فؤادي وخُذْ رَقـادي فقال: لا بال هما جميعاً
فقال: اسكتوا لئلا تسمعها النفوس فتدعيها [26].
رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهـم وخاضوا بحار الحب دعوى وما ابتلوا
فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم وما ظعنـوا في السير عنه وقد كلـوا
ومنه ينبغي للمرء الحرص على تصحيح الأعمال والنيات لله تعالى؛ حتى يستكمل حقيقة الإيمان، وفي هذا المعنى أشار النبي -سلم- بقوله: (من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان) [27].
ألا يا محب المصطفى زد صبابة وصمِّخ لسان الذكر منك بطيبهِ
ولا تعبـأن بالمبطليـن فإنمـا علامةُ حـبِّ الله حـبُّ حبيبـهِ
3- تولي الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وذكر محاسنهم وفضائلهم والكف عما شجر بينهم، وإنما نحب نحن من أحب الله ورسوله، كما أن حبهم وموالاتهم تقرب إلى حب الله وحب رسوله -سلم-، وتجلب الحب لهما، كما أننا نُحِبُ بحُبِ النبي -سلم-، ونبغض ببغضه، وهذا من الآثار اللازمة لمن كان محباً للنبي -سلم-؛ ولذا لمَّا سمع النبي -سلم- صوتاً لقريب ممن يحبه اهتز لذلك سروراً، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله -سلم-، فعرف استئذان خديجة، فارتاع لذلك، فقال: اللهم هالة بنت خويلد، فغرتُ)... الحديث [28].
وكان إذا ذبح شاة قال: (أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة) [29] قال ابن حجر: « وفي الحديث : أن من أحبَّ شيئًا أحبَّ محبوباته، وما يشبهه، وما يتعلق به » [30].
تمر الصبا صفحاً بسكان ذي الغضا ويصدع قلبي أن يلهب هبوبُها
قريبة عهـد بالحبيب وإنما هـوى كل نفس حيث حـل حبيبهـا
ولست في مقام النائب عن العقل حتى نستدرك هذا الحب، وإنما هو واقع ما أجمله:
أحب بني العوام طراً لحيها ومن أجلها أحببت أخوالها كلباً
وينبغي على العاقل أن يتأمل حقيقة الحب وأثره ومعناه:
فيا ساكني أكناف طيبة كلكم إلى القلب من أجل الحبيب حبيب
وقد خشي -سلم- ممن يلمز أصحابه أو يلومهم، فقال -سلم-: (لا تسبوا أحداً من أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) [31]، هذا في عموم الصحابة، وأما في الأنصار، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: مر أبو بكر والعباس -رضي الله عنهما- بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي -سلم- منا، فدخل على النبي -سلم- فأخبره بذلك، قال: فخرج النبي -سلم- وقد عصب على راسه حاشية بُرد، قال: فصعد المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أوصيكم بالأنصار؛ فإنهم كرشي وعيبتي [32]، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذيلهم، فأقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم) [33]. وفي رواية عند البخاري: (وإن الناس سيكثرون ويقلون) [34]، قال ابن حجر في الفتح: « أي أن الأنصار يقلون: وفيه إشارة إلى دخول قبائل العرب والعجم في الإسلام وهم أضعاف قبيلة الأنصار، فمهما فرض في الأنصار من الكثرة كالتناسل، فرض في كل طائفة من أولئك، فهم أبداً بالنسبة إلى غيرهم قليل، ويحتمل أن يكون -سلم- اطلع على أنهم يقلون مطلقاً، فأخبر بذلك، فكان كما أخبر، لأن الموجودين الآن من ذرية علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ممن يتحقق نسبه إليه أضعاف من يوجد من قبيلتي الأوس والخزرج، ممن يتحقق نسبه، وقس على ذلك، ولا التفات إلى كثرة من يدعي أنه منهم بغير برهان » [35].
بل تبلغ الدعوة إلى حب الأنصار أن جعل رسول الله -سلم- حبهم آية على الإيمان، وبغضهم آية على النفاق، فقال فيهم: (لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يُبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله) [36].
وفي المهاجرين يقول تعالى: في أصدق وصف وأدق تعبير: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴿8﴾﴾ [الحشر: 8].
ويجمعهم النص القرآني في موضع آخر: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿100﴾﴾ [التوبة: 100].