تعتبر ظاهرة انحراف الشباب من أبرز المشكلات التي
تعاني منها الأسر العربية، بما تخلّفه من تأثيرات نفسية واجتماعية على
شخصية الشباب وما تتركه من آثار سلبية وخطيرة على باقي أفراد الأسرة،حيث
يقوم المنحرف بتصرفات مخالفة للقيم الدينية وللقوانين الاجتماعية والأعراف
والقيم السائدة في المجتمع، ويسيء بها إلى نفسه وأسرته، لكن قبل هذا وذاك
علينا أن نعترف أن الشاب أو الفتاة الذين انحرفوا لم يولدوا منحرفين، بل لم
يجدوا من يعلمهم أو يقوم سلوكهم سواء من الأسرة أولاً ثم المجتمع مما
قادهم إلى الانحراف بشكل غير مباشر... وبالتالي بات على الأسرة دور هام
وعبء ثقيل في تحمل تبعات وجود عضو منحرف فيها بسبل تعاملها معه.
المتابعة !
السيدة هدى الدميري 33 سنة تقول: "كنت انظف غرفة ابني، فوجدت بعض فتاتات
ورقية شككت أنها لصور إباحية، انتابني الذعر فلا ادري من أين حصل عليها، لم
أرد أن أتتبعه حتى لا يكشتف ويكذب علي، أو أن يعترف لي بخطئه ثم يعاود
الرجوع إليه بعيداً عن عيني ورقابتي، فقررت أن أبدأ في علاج الأمر عن طريق
أخيه الأكبر الذي تزوج قريباً، وكان متعلقاً به إلى أقصى درجة، وقبلها
اصطنعت مشكلة في خط الإنترنت وعطلت عمله، ثم نقلت مكان جهاز الكمبيوتر إلى
غرفة المعيشة الرئيسية وليس في غرفته".
غياب الآباء ... بداية انحراف
أما السيد محمد هاشم 44 عاماً يقول : "كنت أعمل في دولة عربية وتركت زمام
أمور التربية لزوجتي والتي اتصلت بي يوماً لتصدمني أن ابنتي قد ارتكبت
سلوكا مشينا وعلمت بعدها أن ابنتي كثيرا ما كررت تلك السلوكيات وأن هذه
ليست أول مرة تقوم فيها بهذا الفعل، وقتها أخذت قراراً بالرجوع إلى بلدي،
فقد كانت تشعر إني مجرد بنك للأموال دون مراعاة ما تحتاجه مني كأب أو من
أمها كأم والتي كانت مشغولة هي الأخرى بعملها، لكن بفضل الله بحسن احتوائها
أنا وأمها وأختيها تحسنت أمورها".
في بيتنا ملتزم !
تقول (ص.ف) 20 عاماً : نشات في بيت فقير، لأب متوفي، وأم لا حول لها ولا
قوة لكبر سنها وثلاث بنات وشاب، ترعرعت منذ الصغر وأنا لا أجد أي قيم
تربوية ولا إسلامية تغرس في بيتنا، فانحرف أخي الأكبر في إدمان المخدرات ،
وصرت أعاني نظرات الجيران التي تحمل علامات كثيرة للاستفهام .
لم تكن المشكلة الرئيسية في كون انحراف أخوتي تسبب في تأخير زواجي، فكلما
تقدم شاب لخطبتي عرف الوضع، ولى هارباًً، إنما كانت المشكلة في كيفية
تعاملي مع أختي الصغرى التي لم تتعد الحادية عشر وترى كل هذا، فكنت أتحير
كيف أربيها وأنا لست مؤهلة لذلك، وكيف أطلب منها العودة مبكراً للبيت، أو
الالتزام بالملابس المحتشمة، وهي ترى أخواتها الكبيرات لا يلتزمن بأية قيم
".
التعرف المبكر على علامات الانحراف
الدكتور محمود حامد أستاذ الصحة النفسية بكلية التربية بجامعة حلوان وضح
لنا الخطوات الأساسية التي يجب على الأسرة أن تتبناها في التعامل مع العضو
المنحرف فيها حيث يقول: " من الضروري تعرف الأسرة على وجود ابن منحرف في
فترات مبكرة من مراحل الانحراف لان ذلك يزيد من نسبة العلاج، فهناك العديد
من الأسر التي لا تحب الاعتراف بأن لها ابنا منحرفا، كمن يعلمون ان ابنهم
دخل دائرة التدخين، فلا يعترفون به منحرفاً من منطلق أن أغلب الشباب يدخنون
الآن، بل وأحياناً تكون الأم سبباً قوياً في ازدياد معدلات الانحراف كأن
تعطي هذا الابن المدخن مبالغ زائدة من الأموال كلما طلب، وتخفي عن والده
حقيقة التدخين، لحين الاكتشاف إنه تطور ليدخل دائرة الإدمان، ويكون وقت
العلاج وقتها قد فات، وبالتالي تزداد هذه المشكلات الانحرافية في حال
التأخر عن علاجها تعقيداً مع مرور الوقت، ومن ثم فالمبادرة في علاجه ضرورية
حتى لا تطول وتستفحل، فطولها يؤدي إلى تأصيلها لدى الشخص، كما أن ذك يؤدي
إلى اتساع دائرة انتشارها بين أفراد الأسرة من الأبناء.
مع الصدمة ... لا تفقد الإتزان
ويضيف الشيخ الدكتور محمد الدويش في مقال نشر له بموقعه الشخصي قائلاً : "
غالباً ما يصاب الآباء حين اكتشاف الانحراف بالصدمة وقد تؤدي هذه الصدمة
إلى فقدان التوازن في التعامل مع الموضوع، فتأخذ العاطفة أكثر من حجمها
الطبيعي، وقد يتخذون ردود أفعال متسرعة، كرد الفعل العنيف أو الضرب أو
المقاطعة، وتصل للطرد من المنزل للأولاد وهذا خطأ فادح.
فيجب على أفراد الأسرة اتخاذ عدة خطوات على التوالي أثناء التعامل، حيث
تبدأ الخطوة الأولى بالعلاج غير المباشر، فهو أنجع في العلاج وأقل في
العواقب، وهو الذي يعنى بالتركيز على تقوية الإيمان والتقوى في نفس
المنحرف، دون التصريح أو التلميح بالمشكلة، ولاشك أن الإيمان سيدعوه إلى
مفارقة المشكلة والإقلاع عنها، ثم تأتي خطوة ثانية في الحديث والتوجيه
العام للأبناء من خلال الحديث عن نتائج الانحراف وأثره، أو عن الفواحش
ومخاطرها، ولابد من التركيز على استثارة الإيمان والتأثر القلبي أيضاً، ثم
أخيراً تأتي الخطوة الثالثة وهي التصريح المباشر في التعامل مع المنحرف،
وهذا ينبغي أن لا يلجا إليه إلا حين لا يجدي غيره فقد يترتب عليه العناد
،وإن كانت طبيعة الانحراف سرقة أو كذب أو غيرها من الأشكال الأقل ضرراً،
على الآباء أن يستروا على هذا الابن أمام باقي أفراد الأسرة والأقارب حتى
لا يشعر بالخجل وكره الآباء أنهم أساؤا مظهره أمام الآخرين.
الشباب لم يولد منحرفاَ!!
أما الدكتورة ثناء أحمد أستاذ التربية بجامعة القاهرة فتضيف قائلة: " يجب
على الأهل أن يعرفوا سبب انحراف الابن او الابنه، وذلك عبر التقرب إلى
المنحرف ومعرفة سبب السلوك الذي قام به، ومن الدافع وراء ذلك، وما هي
العوامل التي أدت إلى ذلك، فقد يكون سبب انحراف الأبناء واتجاههم للعلاقات
المنحرفة مع الجنس الآخر بسبب انشغال الأبوين في العمل خارج المنزل طوال
النهار أو افتقاد الحنان، كذلك نجد بعض الأسر تسيء التصرف مع الأبناء،
فبدلاً من أن يكونوا الصدور الحنونة لهم، والآذان المصغية التي تحتوي
الأبناء والبنات في الحاجة إلى المشورة وبث الهموم والتعاون في حل
المشكلات، يكونون غرباء عنهم، فقط تكون مسئوليتهم في التربية مقصورة على
الطعام والملبس والمشرب فقط، وعلى الأسرة بداية من الأب والأم وباقي الاخوة
والأخوات أن يحسنوا التصرف مع التعامل مع العضو المنحرف في الأسرة في
بداية اكتشاف الانحراف، فيجب ألا يشعر المنحرف بأنهم ليسوا خائفين عليه من
الانحراف ومخاطره بقدر ما هم مصابون بالحرج الشديد الذي يمكن أن يسبّبه
انحرافه في الوسط الاجتماعي الذي سيطلع على ذلك.
وهناك بعض الأسر الملتزمة التي يظهر فيها عضو منحرف،وذلك لأنّ الإلتزام في
بعض الأسر يمثل أوامر ونواه وقواعد صارمة ، وليس عاملاً أساسياً لبناء
الشخصية القوية الملتزمة التي لا تلين لعوامل الانحراف، فهؤلاء متدينون
لكنّ انحرافهم يوضح أنّ الدين لم يرتكز في نفوسهم كحصن منيع ضد عواصف
الانحراف ، وإنّما هو مجرد فرائض وواجبات ومحرمات مخزنة في عقولهم دون
تطبيق، وهنا فعلي الأسرة أن تراجع دورها التربوي في التعامل ليس مع العضو
المنحرف فقط ، بل كافة الأبناء ليصبح الدين عامل حيوي من عوامل التحصين
وغرس الوازع الديني.
خطوات عملية
وتضيف د. ثناء قائلة : "كما أن التشجيع من أحد العوامل التي تعين المنحرف
عن الاقلاع عن تصرفاته حيث تولد لديه زيادة الرغبة و الدافعية ليصبح
مستقيماً، وتنمي لديه حب التعلم، وتعينه على تجاوز الفشل والإحباط، وبناء
الشخصية الإيجابية لذاته، وتعويده على الأنشطة التي يقضي فيها الفراغ ومن
أبرزها القراءة والإطلاع، وكذا تكوين الاهتمامات الجادة لديه، كما يجب على
الآباء وباقي أفراد الأسرة أن يولوا هذا العضو المنحرف بعضاً من المسئوليات
والتي تجعل منه القوة والقدرة على إتخاذ القرارات و تحمل تبعاتها، مع غرس
قيم الإنتماء و الولاء، وتعمل على تنمية قيم الذات، ومع تحسن تصرفاته يجب
على أعضاء الأسرة أن يكسبوه حليفاً لا خصماً بألا يستحضروا الماضي كثيراً.
وهناك بعض النقاط الأخرى التي يجب مراعاتها من قبل كافة أعضاء الأسرة حيث:
- عدم هجران المنحرف أو مخاصمته بغية محاولة إصلاحه.
- عدم محاولة حل جميع مشكلاته وتصرفاته في وقت واحد لكن البدء تدريجياً.
- من الهام أثناء التعامل معه عرض الرأي قبل أن يفرض على المنحرف حول
السلوك الغير مرغوب فيه.
- لا تقارن سلوكياته الخاطئة بغيره كأن يقال له انت منحرف كفلان وفلان،
فيصبح مثلهم فعلاً
ويوضح الدكتور محمد درويش الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة الأزهر قائلاً :
" الاخلاق الكريمة هي افراز القلب السليم والنفس الزكية والعقيدة الصحيحة
والفكر الرصين للشباب المسلم ، وحينما ينحرف الشباب عن هذه الأخلاق يجب على
كل مؤسسات المجتمع التكاتف للوقوف يداً واحدة للأخذ بيده إلى بر الأمان
وذلك بالتكاتف بين الاهل والابناء والمؤسسات التربوية والتعليمية الفاعلة
في المجتمع، فحتى لو انتشرت الرذيلة في بعض مجتمعاتنا فلا يعني هذا انه
يمكن لشبابنا ارتكابها بحجة ان الجميع يفعل ذلك.
فالفراغ العاطفي الذي يعاني منه الشباب من أحد الأسباب الرئيسية التي تؤدي
بهم إلى الانحراف، وذلك حيث غياب كلمات الحب والحنان وعبارات الدفء والمودة
داخل الأسرة، فيلجأ الشباب الى تعبئة هذا الفراغ بوسائل واساليب متعددة قد
تحذو لطريق خاطيء بدون قيد أو ضابط، سواء عبر إقامة علاقات محرمة أو عبر
الإدمان أو غيرها من السلوكيات المنحرفة
كما أن لغياب الوازع الديني لدى الشباب أثر كبير حيث ضعف الفهم لمنهج
الاسلام، بأنه منهج شامل لكل جوانب الحياة، فعندما يغيب عن الشباب أن الله
مطلع عليهم ستتحول كل تصرفاتهم الإيجابية لاعمال منحرفة وسيتحول الحرام إلى
حلال، والمنكر إلى معروف، فالأهل لم يعملوا بقول الله عز وجل: { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ
لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }.
ويضيف الشيخ سفر الحوالي في محاضرة له بعنوان " واجب المسلمين أمام نعم
الله " : يجب على الإنسان كما أنه يتقي الله ويحرص على الخير لنفسه أن يدعو
إليه أبناءه. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا
مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ
وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ
وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132] وكان إسماعيل كما وصفه الله أنه وَكَانَ
يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ
مَرْضِيّاً [مريم:55]، هذه من صفات المرضيين عند الله تبارك وتعالى.
فنحن نشكو في هذه الأيام من ضعف السلطة الأبوية لتربية الأبناء، خاصة وأن
التوجيه أصبح ليس موحداً كما كان في السابق، ففي السابق كان الابن او
الابنه لا يتلقى التوجيه إلا من الأب، ولهذا على ما كان في الآباء من
الجهل، كان الأبناء يقدرون آباءهم، أما الآن فالتوجيه متعدد، والمناهج
متعددة الطرق، الأفلام توجه، وملاعب الكرة توجه، وشبكات التليفزيون
والغنترنت والسهرات توجه، وجلساء السوء ينصحون ويوجهون، ويأتي الأب ينصح
ويوجه فيضيع توجيهه مع هؤلاء بسبب هذا الخلل التربوي والاجتماعي.
وللخروج من هذه الأزمة يجب تكاتف قوى المجتمع ككل بتوحيد السلطة التوجيهيه
من الأب والمدرسة ووسائل الإعلام وغيرها، وهذا ليس مستحيلاً فيجب على
الآباء أولاً حسن اختيار مدارس الأبناء، ثم حسن اختيار وسائل الإعلام التي
يطلع عليها الأبناء، كضرورة تشفير بعض القنوات الفضائية الفاسدة، ومتابعة
مواقع الإنترنت التي يزورها الأبناء، ومتابعة الأصدقاء خاصة في سن
المراهقة".