هذه الآية القرآنية
الكريمة جاءت في بداية العشر الثاني من سورة البقرة, وهي سورة مدنية,
وآياتها مائتان وست وثمانون(286) بعد البسملة, وهي أطول سور القرآن
الكريم علي الإطلاق, ويدور محورها الرئيسي حول قضية التشريع الإسلامي.
وقد سبق لنا استعراض
سورة البقرة, وما جاء فيها من ركائز التشريع, وأسس العقيدة, وضوابط
كل من الأخلاق والسلوك, وقصص السابقين, ومن الإشارات الكونية
والعلمية, وغير ذلك من الأخبار, ونركز هنا علي ومضة الإعجاز الإنبائي
الغيبي في الأمر الإلهي إلي الملائكة بالسجود لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ
كما جاء في الآية القرآنية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال وفي
أربعة مواضع أخري من كتاب الله.
من
أوجه الإعجاز الإنبائي الغيبي في النص الكريم:
يقول ربنا ـ تبارك
وتعالي ـ في محكم كتابه:
﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ
فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىوَاسْتَكْبَرَوَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ ﴾( البقرة:34)
وأكد ربنا ـ تبارك اسمه ـ هذا المعني في أربعة مواضع أخري من
محكم كتابه فقال:
(1) ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ
صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا
إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ﴾ ( الأعراف:11).
(2) ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ
اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ
خَلَقْتَ طِيناً ﴾ ( الإسراء:61).
(3)
﴿ وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ
الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُوَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِيوَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ
لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ﴾ ( الكهف:50).
(4)
﴿ وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى ﴾ ( طه:116)
وسجود الملائكة لأبينا آدم- عليه
السلام- هو سجود تكريم واحترام وتوقير, لا سجود خضوع وعبادة وتسليم
كسجود العباد لخالقهم- سبحانه وتعالي- وذلك لأن الله- تعالي- خص
ذاته العلية وحده بالعبادة, وأمر عباده بعدم الخضوع بالسجود لغيره-
سبحانه وتعالي- واعتبر ذلك ضربا من الشرك بالله.
والملائكة خلق غيبي
بالنسبة لنا, سابق خلقهم لخلق الإنسان, وصفهم رسول الله ـ صلي الله
عليه وسلم ـ بأنهم خلقوا من نور, وذلك انطلاقا من حديث أم المؤمنين
السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ قال: "خلقت الملائكة من نور, وخلق الجان
من مارج من نار, وخلق آدم مما وصف لكم" ( صحيح مسلم).
والملائكة يصفهم القرآن الكريم بأنهم
عباد الله المكرمون, وبأنهم هم الملأ الأعلى, وهم السفرة, الكرام
البررة.
والإيمان بالملائكة واجب إسلامي لقول ربنا- تبارك وتعالي:
﴿ آمَنَ
الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِوَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ
بِاللَّهِوَمَلائِكَتِهِوَكُتُبِهِوَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍمِّن
رُّسُلِهِوَقَالُوا
سَمِعْنَاوَأَطَعْنَا
غُفْرَانَكَ رَبَّنَاوَإِلَيْكَ
المَصِيرُ ﴾ ( البقرة:285).
ويؤكد
ذلك قوله ـ سبحانه وتعالي: ﴿
...وَمَن
يَكْفُرْ بِاللَّهِوَمَلائِكَتِهِوَكُتُبِهِوَرُسُلِهِوَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلالاً بَعِيداً ﴾ ( النساء:136).
ويصف
القرآن الكريم الملائكة بقول ربنا ـ تبارك وتعالي: ﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي
السَّمَوَاتِوَمَا
فِي الأَرْضِ مِن دَابَّةٍوَالْمَلائِكَةُوَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْوَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ ( النحل:50,49), ويقول ربنا ـ تبارك وتعالي: ﴿ وَلَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِوَمَنْ عِندَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَعَنْ عِبَادَتِهِوَلاَيَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ
اللَّيْلَوَالنَّهَارَ
لاَ يَفْتُرُونَ ﴾ ( الأنبياء:20,19).
ويضيف
القرآن الكريم في وصف الملائكة قول ربنا ـ تبارك وتعالي: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ
السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ
جَاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىوَثُلاثَوَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا
يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ( فاطر:1).
ويؤكد القرآن الكريم الطاعة الفطرية لله في
الملائكة بقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ عنهم بأنهم: ﴿...لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا
أَمَرَهُمْوَيَفْعَلُونَ
مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ ( التحريم:6)
والأمر
الإلهي للملائكة بالسجود لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ وجميع ذريته إلي قيام
الساعة موجودة في صلبه هو إعلان من الله ـ تعالي ـ بتكريم الإنسان, ذلك
المخلوق المكرم الذي خلقه الله ـ سبحانه وتعالي ـ بيديه, ونفخ فيه من
روحه, وعلمه من علمه, وأسجد له الملائكة, وفضله علي كثير ممن خلق
تفضيلا, وفي ذلك يقول الحق ـ تبارك وتعالي: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَوَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّوَالْبَحْرِوَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِوَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ
مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾
(الإسراء:70).
ومبعث هذا التكريم أن الله ـ تعالي ـ توج الحياة
الأرضية بخلق الإنسان, وجعله أشرف هذه المخلوقات علي الإطلاق, وميزه
بالبيان والعقل, وبالقدرة علي التفكير الإيجابي, وعلي اكتساب المعارف
والمهارات, ومن ثم جعل الإنسان مخلوقا عاقلا مكلفا مسئولا محاسبا عن كل
عمل يعمله في هذه الحياة الدنيا.
فهناك العالم المادي( بجوامده,
وسوائله, وغازاته), وهناك عوالم الحياة غير المكلفة: النباتية
والحيوانية, وعوالم الحياة العاقلة غير المحسوسة ومنها المسخر(
كالملائكة) والمكلف( كعالم الجن) وهناك الإنسان ذلك المخلوق
العاقل, المكلف, المسئول, المحاسب والمدرك, الذي له القدرة علي
التفكير وعلي إدراك ما يفكر فيه, كما يستطيع الإدراك في نفسه لمعان وقيم
للأشياء والأفعال تجعله قادرا علي العيش في عالم من الأفكار,
والتصورات, والذكريات, والعواطف, والمشاعر, والأحاسيس, والتعبير
عن ذلك كله تعبيرا يقبله العقل السوي, وذلك مكن الإنسان من إدراك ذاته
بصورة متميزة عن كل ما سواه من الكائنات الحية المدركة, رغم ما بينه
وبينها من شبه في البناء يشير إلي وحدانية الخالق ـ سبحانه وتعالي ـ وتمايز
في مستوي هذا البناء تشير إلي طلاقة القدرة الإلهية التي أبدعت خلق
الإنسان وإلي مبررات التكريم الذي رفعه إليه الله وهو ـ تعالي ـ الرافع
الخافض.
والإنسانية في الإنسان ليست بجسده المادي المعقد البناء,
ولا بصفاته الجسدية الظاهرة والتشريحية الخاصة, فكل ذلك يحكمه قوانين
المادة ومظاهر الحياة. والإنسانية في الإنسان ليست كذلك بنسبته إلي سلالة
معينة من الكائنات هي السلالة البشرية بمعني كونه بشرا أي مخلوقا ظاهرا
علي جميع الكائنات الحية الأرضية, بمعني كونه انسيا من الإنس( أي غير
الجن) فهذه كلها صفات مادية محضة. ولكن الإنسانية في الإنسان هي قدرته
علي الارتقاء بذاته إلى الدرجة التي تؤهله للقيام بواجبات الاستخلاف في
الأرض, واحتمال تبعات التكليف الإلهي الذي كلفه به الله ـ تعالي ـ بقوله
العزيز: ﴿... إِنِّي جَاعِلٌ
فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً...﴾ والارتقاء
بذاته كذلك إلى الدرجة التي تؤهله لحمل الأمانة التي وصفها ربنا ـ تبارك
وتعالي ـ بقوله العزيز: ﴿
إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِوَالأَرْضِوَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن
يَحْمِلْنَهَاوَأَشْفَقْنَ
مِنْهَاوَحَمَلَهَا
الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾ (الأحزاب:72).
ولذلك فالإنسان توازن دقيق بين طبيعته
المادية وروحه التي نفثها فيه خالقه, وجعل له عقلا يحول دون طغيان أحد
جانبيه علي الآخر, وعلي ذلك فالإنسان يعلو علي متطلبات جسده بعقله,
ويعلو علي أحكام عقله بروحه, لأنه يتصل بدوافع الحياة بواسطة جسده,
ويتصل بخالقه عن طريق عقله وروحه. وواجب العقل البشري أن يدرك ما وسعه
إدراكه من العوالم المحسوسة المدركة, ولكنه لا يستطيع إدراك ما فوق ذلك
من عوالم الغيب المطلق إلا ببيان من الله ـ تعالي ـ عن طريق الوحي المنزل
علي أنبياء الله ورسله.
من هنا كانت ضرورة الدين لاستقامة حياة
الإنسان علي الأرض, وتمكينه من تحقيق رسالته فيها بنجاح.
والدين
علمه الخالق ـ سبحانه وتعالي ـ لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ لحظة خلقه,
وأنزله علي سلسلة طويلة من الأنبياء والمرسلين, وأتمه وختمه في الرسالة
الخاتمة التي بعث بها الرسول الخاتم سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد النبي
العربي ـ صلي الله عليه وسلم ـ ولما كان ليس من بعد هذا الرسول الخاتم من
نبي ولا رسول, فقد تعهد ربنا ـ تبارك وتعالي ـ بحفظ رسالته الخاتمة تعهدا
مطلقا فحفظت في القرآن الكريم, وفي سنة خاتم المرسلين ـ صلي الله عليه
وسلم ـ في نفس لغة الوحي بها( اللغة العربية) علي مدي يزيد علي أربعة
عشر قرنا وسوف تبقي محفوظة بحفظ الله ـ تعالي ـ إلى ما شاء الله حتى تبقي
حجة الله علي خلقه إلي يوم الدين.
والإنسان لا يمكنه أن يحيا علي هذه
الأرض حياة سوية بغير الدين, والدين لا يمكن أن يكون صناعة بشرية لقيامه
علي عدد من ركائز الغيب المطلق( كقضية العقيدة) وعلي فروض تعبدية لابد
للإنسان من تلقي أوامرها من الله ـ سبحانه وتعالي ـ وعلي دستور أخلاقي وفقه
للمعاملات وهذه من القضايا التي لا تقوي الطبيعة البشرية علي وضع أية
ضوابط صحيحة فيها, ومن هنا كانت ضرورة الدين.
والإنسان بفضل عقله,
وإرادته الحرة المستنيرة بالعقل يستطيع التمييز بين معتقد صحيح وآخر غير
صحيح, وذلك بدقة حفظ الوحي السماوي الذي أنزل بهذا المعتقد, والإنسان
هو الكائن المتميز بالقدرة علي تحصيل العلم, وبالاستعداد لكسب المعارف عن
طريق التحصيل, والتفكير والإلهام والالتزام بوحي السماء, وهو المخلوق
الوحيد القادر علي تدبير حياته, وعلي توجيه قواه وملكاته المادية
والروحية, وعلي تسخير ما في الأرض من قوي وكائنات, وما في الكون من سند
وقوانين لعمارة الحياة علي الأرض, ومن ثم التعرف علي خالق الكون ومبدع
الوجود, وفهم رسالته في هذه الحياة: عبدا لله, مطالبا بعبادته بما
أمر, ومستخلفا ناجحا في الحياة مطالبا بعمارة الأرض وإقامة شرع الله
وعدله فيها وهي مبررات الأمر الإلهي للملائكة بالسجود لأبينا آدم ـ عليه
السلام ـ وبصلبه جميع بنيه.
أما إبليس فهو من الجن كما جاء في سورة
الكهف, والجن من عالم الغيب الذي لا نراه, وهم قد عمروا الأرض قبل
الإنس, وأساءوا وأفسدوا فيها وسفكوا الدماء قبل أن يسفكها بنو آدم. وقد
سمي الجن جنا لاستتارهم عن أبصار الإنس. والجن خلق عاقل مكلف كالإنس,
ومنهم المؤمن والكافر, وهم يأكلون ويتناسلون ويموتون, وقد عرفهم الإنس
من كتاب الله ـ سبحانه وتعالي ـ ومن سنة رسوله ـ صلي الله عليه وسلم ـ فقد
جاء ذكر الجان في مواضع عديدة من القرآن الكريم, وفي العديد من أحاديث
سيد المرسلين, ومن هنا وجب الإيمان بوجودهم وإن لم نستطع رؤيتهم.
وقد
شمل أمر الله ـ تعالي ـ إلي الملائكة بالسجود لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ
كل من كان معهم ـ علي الرغم من كون الأمر للملائكة خاصة ـ وقد كان معهم
إبليس وكان يعبد الله ـ سبحانه وتعالي ـ بعبادة الملائكة فشمله الأمر
بالسجود لآدم ولكنه أبي.
هذه الواقعة لم يشهدها أي من بني آدم, ولم
يسمع بها كفار ومشركو قريش, ولم ترد في أي من كتب الأولين, ومن هنا فإن
عرضها في خمسة مواضع مختلفة من القرآن الكريم( في كل من سورة البقرة,
الأعراف, الإسراء, الكهف, وطه يمثل وجها من أوجه الإعجاز الإنبائي
الغيبي في كتاب الله, يشهد لهذا الكتاب المجيد بأنه لا يمكن أن يكون
صناعة بشرية بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه
ورسله, وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية في نفس لغة وحيه( اللغة
العربية) علي مدي يزيد علي أربعة عشر قرنا, وتعهد بهذا الحفظ تعهدا
مطلقا حتى يبقي القرآن الكريم حجة الله علي خلقه إلي يوم الدين, ويبقي
شاهدا بأنه كلام الله الخالق, وشاهدا للرسول الخاتم بالنبوة وبالرسالة,
فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله
علي بعثة خير الأنام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع
هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين.
الكريمة جاءت في بداية العشر الثاني من سورة البقرة, وهي سورة مدنية,
وآياتها مائتان وست وثمانون(286) بعد البسملة, وهي أطول سور القرآن
الكريم علي الإطلاق, ويدور محورها الرئيسي حول قضية التشريع الإسلامي.
وقد سبق لنا استعراض
سورة البقرة, وما جاء فيها من ركائز التشريع, وأسس العقيدة, وضوابط
كل من الأخلاق والسلوك, وقصص السابقين, ومن الإشارات الكونية
والعلمية, وغير ذلك من الأخبار, ونركز هنا علي ومضة الإعجاز الإنبائي
الغيبي في الأمر الإلهي إلي الملائكة بالسجود لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ
كما جاء في الآية القرآنية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال وفي
أربعة مواضع أخري من كتاب الله.
من
أوجه الإعجاز الإنبائي الغيبي في النص الكريم:
يقول ربنا ـ تبارك
وتعالي ـ في محكم كتابه:
﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ
فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىوَاسْتَكْبَرَوَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ ﴾( البقرة:34)
وأكد ربنا ـ تبارك اسمه ـ هذا المعني في أربعة مواضع أخري من
محكم كتابه فقال:
(1) ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ
صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا
إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ﴾ ( الأعراف:11).
(2) ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ
اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ
خَلَقْتَ طِيناً ﴾ ( الإسراء:61).
(3)
﴿ وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ
الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُوَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِيوَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ
لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ﴾ ( الكهف:50).
(4)
﴿ وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى ﴾ ( طه:116)
وسجود الملائكة لأبينا آدم- عليه
السلام- هو سجود تكريم واحترام وتوقير, لا سجود خضوع وعبادة وتسليم
كسجود العباد لخالقهم- سبحانه وتعالي- وذلك لأن الله- تعالي- خص
ذاته العلية وحده بالعبادة, وأمر عباده بعدم الخضوع بالسجود لغيره-
سبحانه وتعالي- واعتبر ذلك ضربا من الشرك بالله.
والملائكة خلق غيبي
بالنسبة لنا, سابق خلقهم لخلق الإنسان, وصفهم رسول الله ـ صلي الله
عليه وسلم ـ بأنهم خلقوا من نور, وذلك انطلاقا من حديث أم المؤمنين
السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ قال: "خلقت الملائكة من نور, وخلق الجان
من مارج من نار, وخلق آدم مما وصف لكم" ( صحيح مسلم).
والملائكة يصفهم القرآن الكريم بأنهم
عباد الله المكرمون, وبأنهم هم الملأ الأعلى, وهم السفرة, الكرام
البررة.
والإيمان بالملائكة واجب إسلامي لقول ربنا- تبارك وتعالي:
﴿ آمَنَ
الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِوَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ
بِاللَّهِوَمَلائِكَتِهِوَكُتُبِهِوَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍمِّن
رُّسُلِهِوَقَالُوا
سَمِعْنَاوَأَطَعْنَا
غُفْرَانَكَ رَبَّنَاوَإِلَيْكَ
المَصِيرُ ﴾ ( البقرة:285).
ويؤكد
ذلك قوله ـ سبحانه وتعالي: ﴿
...وَمَن
يَكْفُرْ بِاللَّهِوَمَلائِكَتِهِوَكُتُبِهِوَرُسُلِهِوَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلالاً بَعِيداً ﴾ ( النساء:136).
ويصف
القرآن الكريم الملائكة بقول ربنا ـ تبارك وتعالي: ﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي
السَّمَوَاتِوَمَا
فِي الأَرْضِ مِن دَابَّةٍوَالْمَلائِكَةُوَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْوَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ ( النحل:50,49), ويقول ربنا ـ تبارك وتعالي: ﴿ وَلَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِوَمَنْ عِندَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَعَنْ عِبَادَتِهِوَلاَيَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ
اللَّيْلَوَالنَّهَارَ
لاَ يَفْتُرُونَ ﴾ ( الأنبياء:20,19).
ويضيف
القرآن الكريم في وصف الملائكة قول ربنا ـ تبارك وتعالي: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ
السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ
جَاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىوَثُلاثَوَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا
يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ( فاطر:1).
ويؤكد القرآن الكريم الطاعة الفطرية لله في
الملائكة بقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ عنهم بأنهم: ﴿...لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا
أَمَرَهُمْوَيَفْعَلُونَ
مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ ( التحريم:6)
والأمر
الإلهي للملائكة بالسجود لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ وجميع ذريته إلي قيام
الساعة موجودة في صلبه هو إعلان من الله ـ تعالي ـ بتكريم الإنسان, ذلك
المخلوق المكرم الذي خلقه الله ـ سبحانه وتعالي ـ بيديه, ونفخ فيه من
روحه, وعلمه من علمه, وأسجد له الملائكة, وفضله علي كثير ممن خلق
تفضيلا, وفي ذلك يقول الحق ـ تبارك وتعالي: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَوَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّوَالْبَحْرِوَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِوَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ
مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾
(الإسراء:70).
ومبعث هذا التكريم أن الله ـ تعالي ـ توج الحياة
الأرضية بخلق الإنسان, وجعله أشرف هذه المخلوقات علي الإطلاق, وميزه
بالبيان والعقل, وبالقدرة علي التفكير الإيجابي, وعلي اكتساب المعارف
والمهارات, ومن ثم جعل الإنسان مخلوقا عاقلا مكلفا مسئولا محاسبا عن كل
عمل يعمله في هذه الحياة الدنيا.
فهناك العالم المادي( بجوامده,
وسوائله, وغازاته), وهناك عوالم الحياة غير المكلفة: النباتية
والحيوانية, وعوالم الحياة العاقلة غير المحسوسة ومنها المسخر(
كالملائكة) والمكلف( كعالم الجن) وهناك الإنسان ذلك المخلوق
العاقل, المكلف, المسئول, المحاسب والمدرك, الذي له القدرة علي
التفكير وعلي إدراك ما يفكر فيه, كما يستطيع الإدراك في نفسه لمعان وقيم
للأشياء والأفعال تجعله قادرا علي العيش في عالم من الأفكار,
والتصورات, والذكريات, والعواطف, والمشاعر, والأحاسيس, والتعبير
عن ذلك كله تعبيرا يقبله العقل السوي, وذلك مكن الإنسان من إدراك ذاته
بصورة متميزة عن كل ما سواه من الكائنات الحية المدركة, رغم ما بينه
وبينها من شبه في البناء يشير إلي وحدانية الخالق ـ سبحانه وتعالي ـ وتمايز
في مستوي هذا البناء تشير إلي طلاقة القدرة الإلهية التي أبدعت خلق
الإنسان وإلي مبررات التكريم الذي رفعه إليه الله وهو ـ تعالي ـ الرافع
الخافض.
والإنسانية في الإنسان ليست بجسده المادي المعقد البناء,
ولا بصفاته الجسدية الظاهرة والتشريحية الخاصة, فكل ذلك يحكمه قوانين
المادة ومظاهر الحياة. والإنسانية في الإنسان ليست كذلك بنسبته إلي سلالة
معينة من الكائنات هي السلالة البشرية بمعني كونه بشرا أي مخلوقا ظاهرا
علي جميع الكائنات الحية الأرضية, بمعني كونه انسيا من الإنس( أي غير
الجن) فهذه كلها صفات مادية محضة. ولكن الإنسانية في الإنسان هي قدرته
علي الارتقاء بذاته إلى الدرجة التي تؤهله للقيام بواجبات الاستخلاف في
الأرض, واحتمال تبعات التكليف الإلهي الذي كلفه به الله ـ تعالي ـ بقوله
العزيز: ﴿... إِنِّي جَاعِلٌ
فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً...﴾ والارتقاء
بذاته كذلك إلى الدرجة التي تؤهله لحمل الأمانة التي وصفها ربنا ـ تبارك
وتعالي ـ بقوله العزيز: ﴿
إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِوَالأَرْضِوَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن
يَحْمِلْنَهَاوَأَشْفَقْنَ
مِنْهَاوَحَمَلَهَا
الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾ (الأحزاب:72).
ولذلك فالإنسان توازن دقيق بين طبيعته
المادية وروحه التي نفثها فيه خالقه, وجعل له عقلا يحول دون طغيان أحد
جانبيه علي الآخر, وعلي ذلك فالإنسان يعلو علي متطلبات جسده بعقله,
ويعلو علي أحكام عقله بروحه, لأنه يتصل بدوافع الحياة بواسطة جسده,
ويتصل بخالقه عن طريق عقله وروحه. وواجب العقل البشري أن يدرك ما وسعه
إدراكه من العوالم المحسوسة المدركة, ولكنه لا يستطيع إدراك ما فوق ذلك
من عوالم الغيب المطلق إلا ببيان من الله ـ تعالي ـ عن طريق الوحي المنزل
علي أنبياء الله ورسله.
من هنا كانت ضرورة الدين لاستقامة حياة
الإنسان علي الأرض, وتمكينه من تحقيق رسالته فيها بنجاح.
والدين
علمه الخالق ـ سبحانه وتعالي ـ لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ لحظة خلقه,
وأنزله علي سلسلة طويلة من الأنبياء والمرسلين, وأتمه وختمه في الرسالة
الخاتمة التي بعث بها الرسول الخاتم سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد النبي
العربي ـ صلي الله عليه وسلم ـ ولما كان ليس من بعد هذا الرسول الخاتم من
نبي ولا رسول, فقد تعهد ربنا ـ تبارك وتعالي ـ بحفظ رسالته الخاتمة تعهدا
مطلقا فحفظت في القرآن الكريم, وفي سنة خاتم المرسلين ـ صلي الله عليه
وسلم ـ في نفس لغة الوحي بها( اللغة العربية) علي مدي يزيد علي أربعة
عشر قرنا وسوف تبقي محفوظة بحفظ الله ـ تعالي ـ إلى ما شاء الله حتى تبقي
حجة الله علي خلقه إلي يوم الدين.
والإنسان لا يمكنه أن يحيا علي هذه
الأرض حياة سوية بغير الدين, والدين لا يمكن أن يكون صناعة بشرية لقيامه
علي عدد من ركائز الغيب المطلق( كقضية العقيدة) وعلي فروض تعبدية لابد
للإنسان من تلقي أوامرها من الله ـ سبحانه وتعالي ـ وعلي دستور أخلاقي وفقه
للمعاملات وهذه من القضايا التي لا تقوي الطبيعة البشرية علي وضع أية
ضوابط صحيحة فيها, ومن هنا كانت ضرورة الدين.
والإنسان بفضل عقله,
وإرادته الحرة المستنيرة بالعقل يستطيع التمييز بين معتقد صحيح وآخر غير
صحيح, وذلك بدقة حفظ الوحي السماوي الذي أنزل بهذا المعتقد, والإنسان
هو الكائن المتميز بالقدرة علي تحصيل العلم, وبالاستعداد لكسب المعارف عن
طريق التحصيل, والتفكير والإلهام والالتزام بوحي السماء, وهو المخلوق
الوحيد القادر علي تدبير حياته, وعلي توجيه قواه وملكاته المادية
والروحية, وعلي تسخير ما في الأرض من قوي وكائنات, وما في الكون من سند
وقوانين لعمارة الحياة علي الأرض, ومن ثم التعرف علي خالق الكون ومبدع
الوجود, وفهم رسالته في هذه الحياة: عبدا لله, مطالبا بعبادته بما
أمر, ومستخلفا ناجحا في الحياة مطالبا بعمارة الأرض وإقامة شرع الله
وعدله فيها وهي مبررات الأمر الإلهي للملائكة بالسجود لأبينا آدم ـ عليه
السلام ـ وبصلبه جميع بنيه.
أما إبليس فهو من الجن كما جاء في سورة
الكهف, والجن من عالم الغيب الذي لا نراه, وهم قد عمروا الأرض قبل
الإنس, وأساءوا وأفسدوا فيها وسفكوا الدماء قبل أن يسفكها بنو آدم. وقد
سمي الجن جنا لاستتارهم عن أبصار الإنس. والجن خلق عاقل مكلف كالإنس,
ومنهم المؤمن والكافر, وهم يأكلون ويتناسلون ويموتون, وقد عرفهم الإنس
من كتاب الله ـ سبحانه وتعالي ـ ومن سنة رسوله ـ صلي الله عليه وسلم ـ فقد
جاء ذكر الجان في مواضع عديدة من القرآن الكريم, وفي العديد من أحاديث
سيد المرسلين, ومن هنا وجب الإيمان بوجودهم وإن لم نستطع رؤيتهم.
وقد
شمل أمر الله ـ تعالي ـ إلي الملائكة بالسجود لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ
كل من كان معهم ـ علي الرغم من كون الأمر للملائكة خاصة ـ وقد كان معهم
إبليس وكان يعبد الله ـ سبحانه وتعالي ـ بعبادة الملائكة فشمله الأمر
بالسجود لآدم ولكنه أبي.
للدكتور زغلول النجار@
هذه الواقعة لم يشهدها أي من بني آدم, ولم
يسمع بها كفار ومشركو قريش, ولم ترد في أي من كتب الأولين, ومن هنا فإن
عرضها في خمسة مواضع مختلفة من القرآن الكريم( في كل من سورة البقرة,
الأعراف, الإسراء, الكهف, وطه يمثل وجها من أوجه الإعجاز الإنبائي
الغيبي في كتاب الله, يشهد لهذا الكتاب المجيد بأنه لا يمكن أن يكون
صناعة بشرية بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه
ورسله, وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية في نفس لغة وحيه( اللغة
العربية) علي مدي يزيد علي أربعة عشر قرنا, وتعهد بهذا الحفظ تعهدا
مطلقا حتى يبقي القرآن الكريم حجة الله علي خلقه إلي يوم الدين, ويبقي
شاهدا بأنه كلام الله الخالق, وشاهدا للرسول الخاتم بالنبوة وبالرسالة,
فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله
علي بعثة خير الأنام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع
هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين.