كتبه/ ياسر عبد التواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالحسد
من الأمراض الشيطانية الخبيثة التي تهلك الحاسد والمحسود، قال معاوية بن
أبي سفيان -رضي الله عنه-: "كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسد نعمة فإنه لا
يرضيه إلا زوالها".
الحاسد عدو لا يمكن إزالة عداوته، ولذلك قيل:
كل العداوة قد ترجى إماتتها إلا عداوة من عاداك من حسد
فالحاسد يظلم نفسه بكمدها وضيقها كلما رأى النعم مع المحسود، فلا يقر لنفسه قرار، ولا يهدأ له بال، بينما المحسود يهلك لكونه مظلوم.
الحسد أول ذنب:
الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي به في الأرض؛ فأما في السماء فحسد إبليس لآدم، وأما في الأرض فحسد قابيل لهابيل.
قال الحسن -رحمه الله-: "ما رأيتُ ظالمًا أشبه بمظلوم من حاسد؛ نغص دائم، وحزن لازم، وعبرة لا تنفد".
ولأبي العتاهية في الناس:
فـيا رب إن الناس لا ينصفونني فـكـيف ولو أنـصفتهم ظـلموني
وإن كان لي شيء تصدوا لأخذه وإن شئت أبغي شيئهم منعوني
وإن نالهم بذلي فلا شكر عندهم وإن أنا لم أبـذل لـهـم شـتموني
وإن طـرقـتـني نـكبة فـكهوا بها وإن صحبـتـنـي نعـمة حسدوني
سـأمـنع قـلـبي أن يـحـن إليـهـم وأحجـب عنهم ناظري وجفوني
الحسد أصل المعاصي:
قال القرطبي -رحمه الله-: "قال بعض أهل التفسير في قول الله -تعالى-: (وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ
وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ
الأَسْفَلِينَ) (فصلت:29)،
إنه إنما أراد بالذي من الجن إبليس، والذي من الإنس قابيل؛ وذلك أن إبليس
كان أول من سنَّ الكفر، وقابيل كان أول من سنَّ القتل، وإنما كان أصل ذلك
كله الحسد، وقال الشاعر:
إن الغـراب وكان يـمشي مـشـية فيما مضى من سالف الأحوال
حسد القطاة فرام يمشي مـشيها فأصـابه ضـرب مِـن التـعـقـال
قال -تعالى- في شأن أهل الحسد: (إِنْ
تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا
بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا
إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (آل عمران:120).
أسباب الحسد:
1- العداوة والبغضاء.
2- التعزز، وهو أن يثقل على الحاسد ترفـُّع المحسود عليه.
3- الكبر.
4- التعجب.
5- الخوف من فوات المصالح، كالمتزاحمين على مقصود واحد.
6- حب الرياسة.
موسوسون في الحسد:
بعض
الناس مبتلى بالوسوسة فهو يظن دومًا أنه محسود، كلما فشل في شيء اتهم
الحسد، وكلما ابتلي بمرض أو فسد ما بينه وبين أهله، أو وقع ضحية إشكال أو
حتى اتهم بالتقصير في شيء أرجع ذلك كله إلى الحسد، وتراه يبحث دومًا عن
أولئك الحاسدين؛ ليصُبّ جام غضبه عليهم، ويشتكي إلى الناس وربما إلى الله
من تكالبهم عليه، وتواطئهم على إيذائه!
وهذا
السلوك يحمل كمًا لا بأس به من سوء الظن بالناس؛ فترى صاحبه لا يفتأ يظن
بكل من رآه أو اطلع على نعمة عنده أنه سيحسده أو حسده بالفعل، وربما جره
ذلك إلى معاداة الحاسدين في ظنه، فيجلب على نفسه أبوابًا من العداء
والأذى، كما أن ذلك السلوك ينافي التوكل على الله -تعالى-، وبالقدر الذي
يحمل شيئًا من سوء الأدب مع الله.
أما تنافيه مع التوكل؛ فإن الموسوس بالحسد يتعلق قلبه بغير الله يخشاه ويرهبه.
أما سوء أدبه مع الله؛
فإن علامة ذلك أن تراه ناقمًا متوجسًا ظانـًا بالناس السوء، وكأن الله
-تعالى- لم يخلق صاحب نعمة إلا هو! بالرغم من أن الدنيا فانية وإلى زوال،
فلو أخذ المسلم حظه من الزهد في هذه الدنيا وتحقير أمرها لما بلغ هذه
الدرجة من الوسوسة.
عودة إذن إلى ذكر الله وإلى إحسان الظن بالناس، وإلى الزهد في الدنيا.. كل ذلك سيبعدك عن الوسوسة في الحسد.
الحسد نوعان:
ونحن
هنا في كلامنا عن الحسد نقصد به النوع المذموم منه؛ فالحسد نوعان: مذموم
ومحمود، فالمذموم أن تتمنى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم، وسواء تمنيت مع
ذلك أن تعود إليك أو لا، وهو أسوأ الخصلتين، وهذا النوع الذي ذمه الله
-تعالى- في كتابه بقوله: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (النساء:54)، وإنما كان مذمومًا؛ لأن فيه إساءة أدب مع الحق -سبحانه-، وكأنه أنعم على من لا يستحق.
وأما النوع المحمود: فهو ما جاء في صحيح الحديث من قوله -عليه الصلاة والسلام-: (لاَ
حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ
يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَرَجُلٌ آتَاهُ
اللَّهُ مَالاً فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ) (متفق عليه)،
وهذا الحسد معناه: الغبطة، وكذلك ترجم عليه البخاري: "باب الاغتباط في
العلم والحكمة". وحقيقتها: أن تتمنى أن يكون لك ما لأخيك المسلم من الخير
والنعمة، ولا يزول عنه خيره، وقد يجوز أن يسمى هذا منافسة، ومنه قوله
-تعالى-: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين:26).
العين والحسد حق:
أخرج البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -سلم- قال: (الْعَيْنُ حَقٌّ)، وفي رواية: (وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ) (رواه مسلم).
وأخرج الطبري: قال معمر: وسمعت ابن طاوس يحدث عن أبيه، قال: (الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ وَإِذَا اسْتُغْسِل أَحَدكُمْ فَلْيَغْتَسِلْ) أي: إن طـُلب منه الاغتسال في الحسد فليفعل، وروى مسلم نحوه.
وعن
سهل بن حنيف أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -سلم- خَرَجَ وَسَارُوا
مَعَهُ نَحْوَ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِشِعْبِ الْخَرَّارِ مِنَ
الْجُحْفَةِ اغْتَسَلَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ -وَكَانَ رَجُلاً أَبْيَضَ
حَسَنَ الْجِسْمِ وَالْجِلْدِ- فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ
أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ يَغْتَسِلُ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ
كَالْيَوْمِ وَلاَ جِلْدَ مُخْبَأَةٍ. فَلُبِطَ بِسَهْلٍ فَأُتِيَ رَسُولُ
اللَّهِ -سلم- فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ
لَكَ فِي سَهْلٍ وَاللَّهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَمَا يُفِيقُ. قَالَ: (هَلْ تَتَّهِمُونَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ)؟
قَالُوا: نَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ. فَدَعَا رَسُولُ
اللَّهِ -سلم- عَامِرًا فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ وَقَالَ: (عَلاَمَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ هَلاَّ إِذَا رَأَيْتَ مَا يُعْجِبُكَ بَرَّكْتَ). ثُمَّ قَالَ لَهُ: (اغْتَسِلْ لَهُ).
فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ
رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ ثُمَّ صُبَّ ذَلِكَ الْمَاءُ
عَلَيْهِ يَصُبُّهُ رَجُلٌ عَلَى رَأْسِهِ وَظَهْرِهِ مِنْ خَلْفِهِ ثُمَّ
يُكْفِئُ الْقَدَحَ ورَاءَهُ فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ
النَّاسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني).
وروى البزار عن جابر بن عبد الله أن رسول الله -سلم- قال: (أَكْثَرُ مَنْ يَمُوتُ مِنْ أُمَتِي بَعْدَ كِتَابِ الله وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ بِالأَنْفُسِ) (رواه الطيالسي والبزار، وحسنه الألباني)، قال البزار: "يعني: بالعين".
وقالت
أسماء بنت عميس للنبي -سلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ
وَلَدَ جَعْفَرٍ تُسْرِعُ إِلَيْهِمُ الْعَيْنُ أَفَأَسْتَرْقِي لَهُمْ؟
فَقَالَ: (نَعَمْ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
كيفية وقوع الحسد:
قال ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد: "ولا
ريب أن الله -سبحانه- خلق في الأجسام والأرواح قوى وطبائع مختلفة، وجعل في
كثير منها خواصَّ وكيفيات مؤثرة، ولا يُمكن لعاقل إنكارُ تأثيرِ الأرواح
في الأجسام، فإنه أمر مشاهد محسوس، وأنت ترى الوجه كيف يحمر حمرةً شديدة
إذا نظر إليه من يحتشِمُه ويستحي منه، ويصفر صفرةً شديدة عند نظر من
يخافُه إليه، وقد شاهد الناسُ من يسقم من النظر وتضعُف قواه، وهذا كله
بواسطة تأثير الأرواح، ولشدة ارتباطها بالعين ينسب الفعل إليها، وليست هي
الفاعلة، وإنما التأثير للروح، والأرواح مختلفة في طبائعها وقواها
وكيفياتها وخواصها.
فروح
الحاسد مؤذية للمحسود أذى بينـًا، ولهذا أمر الله -سبحانه- رسوله -صلى
الله عليه وسلم- أن يستعيذ به من شره، وتأثير الحاسد في أذى المحسود أمر
لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية، وهو أصل الإصابة بالعين، فإن
النفس الخبيثة الحاسدة تتكيف بكيفية خبيثة، وتقابل المحسود، فتؤثر فيه
بتلك الخاصية، وأشبه الأشياء بهذا الأفعى، فإن السم كامن فيها بالقوة،
فإذا قابلت عدوها، انبعثت منها قوة غضبية، وتكيفت بكيفية خبيثة مؤذية،
فمنها ما تشتد كيفيتها وتقوى حتى تؤثر في إسقاط الجنين، ومنها: ما تؤثر في
طمس البصر، كما قال النبي -سلم- في الأبتر، وذي الطُّفيتين
من الحيات: (فَإِنَّهُمَا يَلْتَمِسَانِ الْبَصَرَ وَيَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَالَى) (متفق عليه).
ومنها:
ما تؤثر في الإنسان كيفيتُها بمجرد الرؤية من غير اتصال به، لشدة خبث تلك
النفس، وكيفيتها الخبيثة المؤثرة، والتأثير غير موقوف على الاتصالات
الجسمية، كما يظنه من قلَّ علمه ومعرفته بالطبيعة والشريعة، بل التأثير
يكون تارةً بالاتصال، وتارة بالمقابلة، وتارة بالرؤية، وتارة بتوجه الروح
نحو من يُؤثر فيه، وتارة بالأدعية والرقى والتعوذات، وتارة بالوهم
والتخيل، ونفس العائن لا يتوقفُ تأثيرها على الرؤية، بل قد يكون أعمى،
فيوصف له الشيء، فتؤثر نفسه فيه، وإن لم يره، وكثير من العائنين يؤثر في
المعين بالوصف من غير رؤية، وقد قال -تعالى-: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) (القلم:51).
فكل
عائن حاسد، وليس كل حاسد عائنًا، فلما كان الحاسد أعم من العائن، كانت
الاستعاذة منه استعاذة من العائن، وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن
نحو المحسود والمعين تُصيبه تارة وتُخطئة تارة، فإن صادفته مكشوفـًا لا
وقاية عليه، أثرت فيه، ولابد، وإن صادفته حذرًا شاكِيَ السلاح لا منفذ فيه
للسهام، لم تؤثر فيه".
الحسد بضاعة أهل الكتاب:
مع
استضعاف أهل الكتابين لأمتنا في هذه الأيام تجد جليًا ذلك الحسد في
أفعالهم وأقوالهم فما سعيهم لتغيير مناهجنا الدراسية والدينية، وما منعهم
الحجاب ومحاربته في بلادهم وبلادنا إلا صورة أخرى من صور الحسد.
يحسدوننا
على تاريخنا وفخرنا به وهم ليسوا أصحاب تاريخ؛ وعلى شريعتنا وتمسكنا بها
وهم يستحون من نصوصهم المحرفة في كتبهم؛ ويزعجهم ذلك الترابط الأسري
لدينا؛ فيسعون لتفكيك الأسر وإشاعة الفرقة والاختلاف بين أفرادها، ويؤذيهم
عفة بناتنا وطهر نسائنا؛ فيسعون لإشاعة الفواحش عسى أن يضلوا مجتمعاتنا
كما ضلوا هم.
قال -تعالى-: (وَدَّ
كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) (البقرة:109)، وقال -تعالى-: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا
تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . لِئَلا
يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ
اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد:28-29).
قال قتادة: "حسد أهل الكتاب المسلمين فنزلت: (لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ... )" الآية.
قال مجاهد: "قالت اليهود: يوشك أن يخرج منا نبي يقطع الأيدي والأرجل. فلما خرج من العرب كفروا؛ فنزلت: (لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ... ) أي: ليعلم أهل الكتاب. (أن لا يقدرون) أي: أنهم يقدرون".
حسد الجن للأنس:
صح عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -سلم- رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة فقال: (اسْتَرْقُوا لَهَا، فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ) (متفق عليه)،
قال النووي: "يعني بوجهها صفرة". قال الحسين بن مسعود البغوي: "وقوله:
سفعة أي: نظرة، يعني من الجن يقول بها عين أصابتها من نظر الجن أنفذ ممن
آذته الرماح". قال ابن القيم -رحمه الله-: "العين عينان: عين إنسية وعين
جنية".
وعن
أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -سلم-
يتعوذ من أعين الجن وأعين الإنس، ولولا ظان الجن تصيب الإنسان بالعين لما
تعوذ النبي -سلم- منها، والجن تنظر إلي عورة وجسم الإنسان
إذا دخل الحمام "المرحاض- الكنيف"، أو عندما يبدل ثيابه فتصيبه بالعين كما
جاء في الحديث.
الوقاية من حسد الجن:
في حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -سلم-: (ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا وضعوا ثيابهم أن يقولوا: بسم الله) (رواه الطيالسي، وصححه الألباني). وفي رواية عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -سلم-: (سِتْرُ مَا بَيْنَ الْجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ إِذَا دَخَلَ الْكَنِيفَ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
الفرق بين العائن والحاسد:
قال ابن القيم -رحمه الله- في بدائع الفوائد:
"العائن والحاسد يشتركان في شيء، ويفترقان في شيء، فيشتركان في أن كلاً
منهما تتكيف نفسه، وتتوجه نحو من يريد أذاه، فالعائن، تتكيف نفسه عند
مقابلة المعين ومعاينته، والحاسد: يحصل له ذلك عند غيبة المحسود وحضوره،
ويفترقان في أن العائن قد يصيب من لا يحسده: من جماد، أو حيوان، أو زرع أو
مال، وإن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه، وربما أصابت عينه نفسه، فإن
رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق، فمع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في
المعين" اهـ.
فالحاصل أن الحاسد هو:
الذي يحزنه ما يرى في المحسود من النعمة والخير، والصحة والمنزلة الراقية
فيحقد عليه، ويغتم لذلك، ثم يسعى في زوالها، و يبذل ما في وسعه من وشاية
وكذب، وافتراء عليه، ويؤلب عليه من له سلطة أو ولاية، حتى تزول تلك النعمة
التي يتمتع بها أخوه، وليس هناك دافع له على إزالتها سوى الحقد والبغض،
فلا يقر قراره حتى يتلف المال، أو يفتقر المحسود، أو يمرض، أو يحرم من
حرفته أو عمله.
أما العائن فهو: إنسان
قد تكيفت نفسه بالخبث والشر، فأصبحت تمتد إلى ما يلفت النظر، وترسل إليها
ما يحطمها ويغيرها، بمجرد كلمته ونظرته السامة، فقد ذكر ابن القيم -رحمه
الله- أن منهم من تمر به الناقة أو البقرة السمينة فيعينها، ثم يقول
لخادمه: خذ المكتل والدرهم، وآتنا بشيء من لحمها، فما تبرح حتى تقع فتنحر!
وقال
الكلبي: "كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة، لا يأكل ثم يرفع جانب
خبائه فتمر به الإبل فيقول: لم أر كاليوم إبلاً ولا غنمًا أحسن من هذه.
فما تذهب إلا قليلاً حتى يسقط منها طائفة"!! أما عن علاج الحسد والوقاية
منه فهذا له وقفة أخرى -بإذن الله-.www.salafvoice.com
موقع صوت السلف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالحسد
من الأمراض الشيطانية الخبيثة التي تهلك الحاسد والمحسود، قال معاوية بن
أبي سفيان -رضي الله عنه-: "كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسد نعمة فإنه لا
يرضيه إلا زوالها".
الحاسد عدو لا يمكن إزالة عداوته، ولذلك قيل:
كل العداوة قد ترجى إماتتها إلا عداوة من عاداك من حسد
فالحاسد يظلم نفسه بكمدها وضيقها كلما رأى النعم مع المحسود، فلا يقر لنفسه قرار، ولا يهدأ له بال، بينما المحسود يهلك لكونه مظلوم.
الحسد أول ذنب:
الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي به في الأرض؛ فأما في السماء فحسد إبليس لآدم، وأما في الأرض فحسد قابيل لهابيل.
قال الحسن -رحمه الله-: "ما رأيتُ ظالمًا أشبه بمظلوم من حاسد؛ نغص دائم، وحزن لازم، وعبرة لا تنفد".
ولأبي العتاهية في الناس:
فـيا رب إن الناس لا ينصفونني فـكـيف ولو أنـصفتهم ظـلموني
وإن كان لي شيء تصدوا لأخذه وإن شئت أبغي شيئهم منعوني
وإن نالهم بذلي فلا شكر عندهم وإن أنا لم أبـذل لـهـم شـتموني
وإن طـرقـتـني نـكبة فـكهوا بها وإن صحبـتـنـي نعـمة حسدوني
سـأمـنع قـلـبي أن يـحـن إليـهـم وأحجـب عنهم ناظري وجفوني
الحسد أصل المعاصي:
قال القرطبي -رحمه الله-: "قال بعض أهل التفسير في قول الله -تعالى-: (وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ
وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ
الأَسْفَلِينَ) (فصلت:29)،
إنه إنما أراد بالذي من الجن إبليس، والذي من الإنس قابيل؛ وذلك أن إبليس
كان أول من سنَّ الكفر، وقابيل كان أول من سنَّ القتل، وإنما كان أصل ذلك
كله الحسد، وقال الشاعر:
إن الغـراب وكان يـمشي مـشـية فيما مضى من سالف الأحوال
حسد القطاة فرام يمشي مـشيها فأصـابه ضـرب مِـن التـعـقـال
قال -تعالى- في شأن أهل الحسد: (إِنْ
تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا
بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا
إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (آل عمران:120).
أسباب الحسد:
1- العداوة والبغضاء.
2- التعزز، وهو أن يثقل على الحاسد ترفـُّع المحسود عليه.
3- الكبر.
4- التعجب.
5- الخوف من فوات المصالح، كالمتزاحمين على مقصود واحد.
6- حب الرياسة.
موسوسون في الحسد:
بعض
الناس مبتلى بالوسوسة فهو يظن دومًا أنه محسود، كلما فشل في شيء اتهم
الحسد، وكلما ابتلي بمرض أو فسد ما بينه وبين أهله، أو وقع ضحية إشكال أو
حتى اتهم بالتقصير في شيء أرجع ذلك كله إلى الحسد، وتراه يبحث دومًا عن
أولئك الحاسدين؛ ليصُبّ جام غضبه عليهم، ويشتكي إلى الناس وربما إلى الله
من تكالبهم عليه، وتواطئهم على إيذائه!
وهذا
السلوك يحمل كمًا لا بأس به من سوء الظن بالناس؛ فترى صاحبه لا يفتأ يظن
بكل من رآه أو اطلع على نعمة عنده أنه سيحسده أو حسده بالفعل، وربما جره
ذلك إلى معاداة الحاسدين في ظنه، فيجلب على نفسه أبوابًا من العداء
والأذى، كما أن ذلك السلوك ينافي التوكل على الله -تعالى-، وبالقدر الذي
يحمل شيئًا من سوء الأدب مع الله.
أما تنافيه مع التوكل؛ فإن الموسوس بالحسد يتعلق قلبه بغير الله يخشاه ويرهبه.
أما سوء أدبه مع الله؛
فإن علامة ذلك أن تراه ناقمًا متوجسًا ظانـًا بالناس السوء، وكأن الله
-تعالى- لم يخلق صاحب نعمة إلا هو! بالرغم من أن الدنيا فانية وإلى زوال،
فلو أخذ المسلم حظه من الزهد في هذه الدنيا وتحقير أمرها لما بلغ هذه
الدرجة من الوسوسة.
عودة إذن إلى ذكر الله وإلى إحسان الظن بالناس، وإلى الزهد في الدنيا.. كل ذلك سيبعدك عن الوسوسة في الحسد.
الحسد نوعان:
ونحن
هنا في كلامنا عن الحسد نقصد به النوع المذموم منه؛ فالحسد نوعان: مذموم
ومحمود، فالمذموم أن تتمنى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم، وسواء تمنيت مع
ذلك أن تعود إليك أو لا، وهو أسوأ الخصلتين، وهذا النوع الذي ذمه الله
-تعالى- في كتابه بقوله: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (النساء:54)، وإنما كان مذمومًا؛ لأن فيه إساءة أدب مع الحق -سبحانه-، وكأنه أنعم على من لا يستحق.
وأما النوع المحمود: فهو ما جاء في صحيح الحديث من قوله -عليه الصلاة والسلام-: (لاَ
حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ
يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَرَجُلٌ آتَاهُ
اللَّهُ مَالاً فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ) (متفق عليه)،
وهذا الحسد معناه: الغبطة، وكذلك ترجم عليه البخاري: "باب الاغتباط في
العلم والحكمة". وحقيقتها: أن تتمنى أن يكون لك ما لأخيك المسلم من الخير
والنعمة، ولا يزول عنه خيره، وقد يجوز أن يسمى هذا منافسة، ومنه قوله
-تعالى-: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين:26).
العين والحسد حق:
أخرج البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -سلم- قال: (الْعَيْنُ حَقٌّ)، وفي رواية: (وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ) (رواه مسلم).
وأخرج الطبري: قال معمر: وسمعت ابن طاوس يحدث عن أبيه، قال: (الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ وَإِذَا اسْتُغْسِل أَحَدكُمْ فَلْيَغْتَسِلْ) أي: إن طـُلب منه الاغتسال في الحسد فليفعل، وروى مسلم نحوه.
وعن
سهل بن حنيف أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -سلم- خَرَجَ وَسَارُوا
مَعَهُ نَحْوَ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِشِعْبِ الْخَرَّارِ مِنَ
الْجُحْفَةِ اغْتَسَلَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ -وَكَانَ رَجُلاً أَبْيَضَ
حَسَنَ الْجِسْمِ وَالْجِلْدِ- فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ
أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ يَغْتَسِلُ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ
كَالْيَوْمِ وَلاَ جِلْدَ مُخْبَأَةٍ. فَلُبِطَ بِسَهْلٍ فَأُتِيَ رَسُولُ
اللَّهِ -سلم- فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ
لَكَ فِي سَهْلٍ وَاللَّهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَمَا يُفِيقُ. قَالَ: (هَلْ تَتَّهِمُونَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ)؟
قَالُوا: نَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ. فَدَعَا رَسُولُ
اللَّهِ -سلم- عَامِرًا فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ وَقَالَ: (عَلاَمَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ هَلاَّ إِذَا رَأَيْتَ مَا يُعْجِبُكَ بَرَّكْتَ). ثُمَّ قَالَ لَهُ: (اغْتَسِلْ لَهُ).
فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ
رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ ثُمَّ صُبَّ ذَلِكَ الْمَاءُ
عَلَيْهِ يَصُبُّهُ رَجُلٌ عَلَى رَأْسِهِ وَظَهْرِهِ مِنْ خَلْفِهِ ثُمَّ
يُكْفِئُ الْقَدَحَ ورَاءَهُ فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ
النَّاسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني).
وروى البزار عن جابر بن عبد الله أن رسول الله -سلم- قال: (أَكْثَرُ مَنْ يَمُوتُ مِنْ أُمَتِي بَعْدَ كِتَابِ الله وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ بِالأَنْفُسِ) (رواه الطيالسي والبزار، وحسنه الألباني)، قال البزار: "يعني: بالعين".
وقالت
أسماء بنت عميس للنبي -سلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ
وَلَدَ جَعْفَرٍ تُسْرِعُ إِلَيْهِمُ الْعَيْنُ أَفَأَسْتَرْقِي لَهُمْ؟
فَقَالَ: (نَعَمْ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
كيفية وقوع الحسد:
قال ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد: "ولا
ريب أن الله -سبحانه- خلق في الأجسام والأرواح قوى وطبائع مختلفة، وجعل في
كثير منها خواصَّ وكيفيات مؤثرة، ولا يُمكن لعاقل إنكارُ تأثيرِ الأرواح
في الأجسام، فإنه أمر مشاهد محسوس، وأنت ترى الوجه كيف يحمر حمرةً شديدة
إذا نظر إليه من يحتشِمُه ويستحي منه، ويصفر صفرةً شديدة عند نظر من
يخافُه إليه، وقد شاهد الناسُ من يسقم من النظر وتضعُف قواه، وهذا كله
بواسطة تأثير الأرواح، ولشدة ارتباطها بالعين ينسب الفعل إليها، وليست هي
الفاعلة، وإنما التأثير للروح، والأرواح مختلفة في طبائعها وقواها
وكيفياتها وخواصها.
فروح
الحاسد مؤذية للمحسود أذى بينـًا، ولهذا أمر الله -سبحانه- رسوله -صلى
الله عليه وسلم- أن يستعيذ به من شره، وتأثير الحاسد في أذى المحسود أمر
لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية، وهو أصل الإصابة بالعين، فإن
النفس الخبيثة الحاسدة تتكيف بكيفية خبيثة، وتقابل المحسود، فتؤثر فيه
بتلك الخاصية، وأشبه الأشياء بهذا الأفعى، فإن السم كامن فيها بالقوة،
فإذا قابلت عدوها، انبعثت منها قوة غضبية، وتكيفت بكيفية خبيثة مؤذية،
فمنها ما تشتد كيفيتها وتقوى حتى تؤثر في إسقاط الجنين، ومنها: ما تؤثر في
طمس البصر، كما قال النبي -سلم- في الأبتر، وذي الطُّفيتين
من الحيات: (فَإِنَّهُمَا يَلْتَمِسَانِ الْبَصَرَ وَيَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَالَى) (متفق عليه).
ومنها:
ما تؤثر في الإنسان كيفيتُها بمجرد الرؤية من غير اتصال به، لشدة خبث تلك
النفس، وكيفيتها الخبيثة المؤثرة، والتأثير غير موقوف على الاتصالات
الجسمية، كما يظنه من قلَّ علمه ومعرفته بالطبيعة والشريعة، بل التأثير
يكون تارةً بالاتصال، وتارة بالمقابلة، وتارة بالرؤية، وتارة بتوجه الروح
نحو من يُؤثر فيه، وتارة بالأدعية والرقى والتعوذات، وتارة بالوهم
والتخيل، ونفس العائن لا يتوقفُ تأثيرها على الرؤية، بل قد يكون أعمى،
فيوصف له الشيء، فتؤثر نفسه فيه، وإن لم يره، وكثير من العائنين يؤثر في
المعين بالوصف من غير رؤية، وقد قال -تعالى-: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) (القلم:51).
فكل
عائن حاسد، وليس كل حاسد عائنًا، فلما كان الحاسد أعم من العائن، كانت
الاستعاذة منه استعاذة من العائن، وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن
نحو المحسود والمعين تُصيبه تارة وتُخطئة تارة، فإن صادفته مكشوفـًا لا
وقاية عليه، أثرت فيه، ولابد، وإن صادفته حذرًا شاكِيَ السلاح لا منفذ فيه
للسهام، لم تؤثر فيه".
الحسد بضاعة أهل الكتاب:
مع
استضعاف أهل الكتابين لأمتنا في هذه الأيام تجد جليًا ذلك الحسد في
أفعالهم وأقوالهم فما سعيهم لتغيير مناهجنا الدراسية والدينية، وما منعهم
الحجاب ومحاربته في بلادهم وبلادنا إلا صورة أخرى من صور الحسد.
يحسدوننا
على تاريخنا وفخرنا به وهم ليسوا أصحاب تاريخ؛ وعلى شريعتنا وتمسكنا بها
وهم يستحون من نصوصهم المحرفة في كتبهم؛ ويزعجهم ذلك الترابط الأسري
لدينا؛ فيسعون لتفكيك الأسر وإشاعة الفرقة والاختلاف بين أفرادها، ويؤذيهم
عفة بناتنا وطهر نسائنا؛ فيسعون لإشاعة الفواحش عسى أن يضلوا مجتمعاتنا
كما ضلوا هم.
قال -تعالى-: (وَدَّ
كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) (البقرة:109)، وقال -تعالى-: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا
تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . لِئَلا
يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ
اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد:28-29).
قال قتادة: "حسد أهل الكتاب المسلمين فنزلت: (لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ... )" الآية.
قال مجاهد: "قالت اليهود: يوشك أن يخرج منا نبي يقطع الأيدي والأرجل. فلما خرج من العرب كفروا؛ فنزلت: (لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ... ) أي: ليعلم أهل الكتاب. (أن لا يقدرون) أي: أنهم يقدرون".
حسد الجن للأنس:
صح عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -سلم- رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة فقال: (اسْتَرْقُوا لَهَا، فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ) (متفق عليه)،
قال النووي: "يعني بوجهها صفرة". قال الحسين بن مسعود البغوي: "وقوله:
سفعة أي: نظرة، يعني من الجن يقول بها عين أصابتها من نظر الجن أنفذ ممن
آذته الرماح". قال ابن القيم -رحمه الله-: "العين عينان: عين إنسية وعين
جنية".
وعن
أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -سلم-
يتعوذ من أعين الجن وأعين الإنس، ولولا ظان الجن تصيب الإنسان بالعين لما
تعوذ النبي -سلم- منها، والجن تنظر إلي عورة وجسم الإنسان
إذا دخل الحمام "المرحاض- الكنيف"، أو عندما يبدل ثيابه فتصيبه بالعين كما
جاء في الحديث.
الوقاية من حسد الجن:
في حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -سلم-: (ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا وضعوا ثيابهم أن يقولوا: بسم الله) (رواه الطيالسي، وصححه الألباني). وفي رواية عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -سلم-: (سِتْرُ مَا بَيْنَ الْجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ إِذَا دَخَلَ الْكَنِيفَ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
الفرق بين العائن والحاسد:
قال ابن القيم -رحمه الله- في بدائع الفوائد:
"العائن والحاسد يشتركان في شيء، ويفترقان في شيء، فيشتركان في أن كلاً
منهما تتكيف نفسه، وتتوجه نحو من يريد أذاه، فالعائن، تتكيف نفسه عند
مقابلة المعين ومعاينته، والحاسد: يحصل له ذلك عند غيبة المحسود وحضوره،
ويفترقان في أن العائن قد يصيب من لا يحسده: من جماد، أو حيوان، أو زرع أو
مال، وإن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه، وربما أصابت عينه نفسه، فإن
رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق، فمع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في
المعين" اهـ.
فالحاصل أن الحاسد هو:
الذي يحزنه ما يرى في المحسود من النعمة والخير، والصحة والمنزلة الراقية
فيحقد عليه، ويغتم لذلك، ثم يسعى في زوالها، و يبذل ما في وسعه من وشاية
وكذب، وافتراء عليه، ويؤلب عليه من له سلطة أو ولاية، حتى تزول تلك النعمة
التي يتمتع بها أخوه، وليس هناك دافع له على إزالتها سوى الحقد والبغض،
فلا يقر قراره حتى يتلف المال، أو يفتقر المحسود، أو يمرض، أو يحرم من
حرفته أو عمله.
أما العائن فهو: إنسان
قد تكيفت نفسه بالخبث والشر، فأصبحت تمتد إلى ما يلفت النظر، وترسل إليها
ما يحطمها ويغيرها، بمجرد كلمته ونظرته السامة، فقد ذكر ابن القيم -رحمه
الله- أن منهم من تمر به الناقة أو البقرة السمينة فيعينها، ثم يقول
لخادمه: خذ المكتل والدرهم، وآتنا بشيء من لحمها، فما تبرح حتى تقع فتنحر!
وقال
الكلبي: "كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة، لا يأكل ثم يرفع جانب
خبائه فتمر به الإبل فيقول: لم أر كاليوم إبلاً ولا غنمًا أحسن من هذه.
فما تذهب إلا قليلاً حتى يسقط منها طائفة"!! أما عن علاج الحسد والوقاية
منه فهذا له وقفة أخرى -بإذن الله-.www.salafvoice.com
موقع صوت السلف