خُلق الصّدق ميثاق شخصية المسلم |
أعظم زينة يتزين بها المرء في حياته بعد الإيمان هي زينة الصدق، فالصدق أساس الإيمان كما أن الكذب أساس النفاق، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وحارب أحدهما الآخر، والصدق بمعناه الضيق مطابقة منطوق اللسان للحقيقة، وبمعناه الأعم مطابقة الظاهر للباطن، فالصادق مع الله ومع الناس ظاهره كباطنه، ولذلك ذُكر المنافق في الصورة المقابلة للصادق، قال تعالى "لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِين". الصدق ولإخلاص الصدق التزام بالعهد كقوله تعالى "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْه"، والصدق نفسه بجميع معانيه يحتاج إلى إخلاص لله عز وجل وعمل بميثاق الله في عنق كل مسلم، قال تعالى "وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً. لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ"، فإذا كان أهل الصدق سيُسألون، فيكف يكون السؤال والحساب لأهل الكذب والنفاق، والصدق من الأخلاق الأساسية التي يتفرع عنها غيرها، يقول «الحارث المحاسبي» "واعلم أن الصدق والإخلاص أصل كل حال، فمن الصدق يتشعب الصبر والقناعة والزهد والرضا والأنس، وعن الإخلاص يتشعب اليقين والخوف والمحبة والإجلال والحياء والتعظيم، فالصدق في ثلاثة أشياء لا تتم إلا به؛ صدق القلب بالإيمان تحقيقـًا، وصدق النية في الأعمال، وصدق اللفظ في الكلام". لا يكون المؤمن كذابا لما للصدق من رابطة قوية بالإيمان فقد جوّز رسول الله سلم أن يقع من المؤمن ما لا يُحمد من الصفات، غير أنه نفى أن يكون المؤمن مظنه الوقوع في الكذب، لاستبعاد ذلك منه، وقد سأل الصحابة فقالوا "يا رسول الله أيكون المؤمن جبانـا؟" قال "نعم"، فقيل له "أيكون المؤمن بخيلا؟" قال "نعم"، قيل له "أيكون المؤمن كذَّابـا؟" قال "لا"، رواه الإمام «مالك»، وقد يجانب الصدق من يحدث بكل ما سمع والأصل في اللسان الحفظ والصون لأن زلاته كثيرة وشرّه وبيل، فالحذر منه والاحتياط في استعماله أتقى وأورع، فإذا وجدت الرجل لا يبالي ويكثر الكلام، فاعلم أنه في خطر عظيم، فقد قال رسول الله سلم "كفى بالمرء كذبـا أن يحدث بكل ما سمع"، رواه «مسلم»، لأن كثرة الكلام مظنة الوقوع في الكذب باختراع ما لم يحدث، حين لا يجد الإنسان كلامـا أو ينقل خبرا كاذبا - وهو يعلم، فيكون أحد الكذَّابين. خُلق يكتسب بالممارسة الدائمة يُمكن اكتساب كل خُلق جميل بالاعتياد عليه والحرص على التزامه وتحرّي العمل به، حتى يصل صاحبه إلى المراتب العالية ويرتقي من واحدة إلى أخرى بحسن خلقه، ولذلك قال سلم "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البرّ، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يُكتب عند الله صدِّيقا"، وكذلك شأن الكاذب في السقوط إلى أن يختم له بالكذب "وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذَّابا"، رواه «البخاري» و«مسلم». الصدق يكسب الشخصية قوّة من آثار الصدق قوّة القلب ووضوح البيان، ممّا يوحي إلى السامع بالاطمئنان، ومن علامات الكذب، الذبذبة والارتباك والتناقض، ممّا يوقع السّامع بالشك وعدم الارتياح، لذلك فإن "الصدق طمأنينة والكذب ريبة"، وعاقبة الصدق خير وإن توقع المتكلم شرًا، قال تعالى "فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ"، وفي قصة توبة «كعب بن مالك»، يقول «كعب» بعد أن نزلت توبة الله على الثلاثة الذين خلفوا "يا رسول الله. إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدّث إلا صدقـًا ما بقيت"، ويقول كذلك "فوالله ما أنعم الله عليّ من نعمة قط، بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله سلم أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا"، رواه «البخاري»، وروى «ابن الجوزي» في كتابه "مناقب أحمد" أنه قيل له "كيف تخلصت من سيف المعتصم وسوط الواثق؟"، فقال "لو وُضِع الصدق على جرح لبرأ"، كما أنه يوم القيامة يقال للناس "هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُم"، ويدعو الصدق صاحبه للجرأة والشجاعة لأنه ثابت ولأنه واثق لا يتردد، ولذلك جاء في أحد تعريفات الصدق "القول بالحقّ في مواطن الهلكة"، وعبر عن ذلك «الجنيد» بقوله "حقيقة الصدق أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب"، ولكي تكون حياتك كلها صدقـا ولتحشر مع الصديقين، اجعل مدخلك صدقـا ومخرجك صدقـا، وليكن لسانك لسان صدق، لعل الله يرزقك قدم صدق ومقعد صدق، ولا تترك فرصة للشيطان ليستدرجك بالاستكثار من المعاريض، فالصدق صراحة ووضوح، والميل عنه زيغ. الفرض الدائم قال «علي بن أبي طالب» رضي الله عنه "من كانت له عند الناس ثلاث وجبت له عليهم ثلاث؛ من إذا حدثهم صدقهم، وإذا ائتمنوه لم يخنهم، وإذا وعدهم وفّى لهم، وجب له عليهم أن تحبّه قلوبهم وتنطق بالثناء عليه ألسنتهم وتظهر له معونتهم"، وقيل لـ«القمان» "ألست عبد بني فلان؟"، قال "بلى"، قيل "فما بلغ بك ما أرى؟" قال "تقوى الله عز وجل وصدق الحديث وأداء الأمانة وترك مالا يعنيني"، وقال بعضهم "من لم يؤدّ الفرض الدائم، لم يقبل منه الفرض المؤقت"، قيل "وما الفرض الدائم؟"، قال"الصدق |