الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وبعد فإن إطالة
الرجل لشعره سلوك موجود في مجتمعنا يفعله عدة شرائح وهو مما يشكل حكمه على
كثير من الناس ويسأل عنه فأحببت أبين الحكم فيه مع تفصيل أحوال الناس في
فعله.
وقد ثبت في السنة الصحيحة أن النبي
سلم كان
يطيل شعره على عدة صفات على حسب اختلاف أحواله في شغله وفراغه:
1- يطيله
إلى شحمة أذنه وهي (الوفرة) : قال البراء: (كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم له شعر يبلغ شحمة أذنيه) متفق عليه. وفي صحيح مسلم (كان شعر رسول الله
سلم إلى أنصاف أذنيه).
2- يطيله إلى ما بين أذنه ومنكبه
وهي (اللمة): قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (كان شعر رسول الله صلى الله
عليه وسلم بين أذنيه وعاتقه) متفق عليه. وقالت عائشة: (كان شعر رسول الله
سلم فوق الوفرة ودون الجمّة) رواه أبوداود والترمذي.
3-
يطيله إلى منكبيه وهي (الجمة): فعن أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يضرب شعرُه منكبيه) متفق عليه. وهذا هو الغالب على شعره.
ولم
يثبت في السنة أنه كان يطيله إلى أنزل من كتفه كعادة النساء في إطالة
شعورهن. والظاهر أنه
سلم كان يقصه إذا نزل عن منكبيه. وحديث
الضفائر المخرج في السنن لا يصح إسناده ومتنه مخالف للأحاديث الصحاح وقد
أعله البخاري بالإنقطاع. ولم يتقل عنه
سلم أنه حلق شعره إلا
في النسك خاصة.
وقد اختلف الفقهاء في حكم إطالة الشعر هل هو سنة أم
مباح على قولين:
1- أن إطالة الشعر سنة وهو المشهور في مذهب الحنابلة.
قال المرداوي في الإنصاف: (يستحب إتخاذ الشعر على الصحيح من المذهب وعليه
الأصحاب). وقال ابن قدامة في المغني: (واتخاذ الشعر أفضل من إزالته. قال
أبو إسحاق: سئل أبو عبد الله عن الرجل يتخذ الشعر فقال سنة حسنة لو أمكننا
اتخذناه). وحجتهم في ذلك إطالة النبي
سلم لشعره وفعله سنة
وما روى أبو هريرة أن النبي
سلم قال: (من كان له شعر
فليكرمه) رواه أبو داود. وما رواه ابن عمر أن النبي
سلم رأى
صبيا قد حلق بعض شعره وترك بعضه فنهاهم عن ذلك وقال: (احلقوه كله أو
اتركوه كله) رواه أبوداود.
2- أن إطالة الشعر عمل مباح ليس مسنونا
ومنهم من رأى أن إزالته أفضل من تركه وهو وجه عند الحنابلة وقول مشهور عند
الحنفية وقول ابن عبد البر وغيرهم وحجتهم أن عمل النبي
سلم
من باب العادة لا يشرع التأسي به في ذلك ولم يرد من قوله ما يدل على سنيته.
واستدلوا بما ورد عن النبي
سلم أنه أمر بجز الشعر واستحسن
ذلك كما أخرج أبوداود والنسائي عن وائل بن حجر قال: (أتيت النبي صلى الله
عليه وسلم ولي شعر طويل فلما رآني رسول الله
سلم قال: ذباب
ذباب قال: فرجعت فجززته ثم أتيته من الغد فقال: إني لم أعنك وهذا أحسن).
وقال الطحاوي في مشكل الآثار: (فكان في هذا الحديث عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم ما قد دل على أن جز الشعر أحسن من تربيته وما جعله رسول الله صلى
الله عليه وسلم الأحسن كان لا شيء أحسن منه . ووجب لزوم ذلك الأحسن وترك
ما يخالفه).
الترجيح:
والذي يظهر أن إطالة الشعر للرجل مباح ليس
سنة للوجوه الآتية:
1- أن معنى الجبلة والعادة ظاهر في هذا التصرف
فالنبي
سلم فعله فيما يظهر مجاراة لعرف قومه. فهذا الفعل
ليس تكليفا ولا يظهر فيه قرينة تدل على أن الشارع قصد به معنى يرجح كونه
قربة كالتيامن أو التميز عن الكفار أو عن النساء أو لمنع وسيلة لخلق مذموم
ونحو ذلك. والفعل إذا خلا من هذه المقاصد صار من جنس باقي الأفعال التي
تفعل بمقتضى الجبلة ولم يضف إليها الشرع حكما تكليفيا. والمقرر عند أهل
الأصول أن أفعال الرسول
سلم ثلاثة شرعي وجبلي وقسم بينهما
متنازع فيه يختلف الفقهاء في حكمه وتتجاذبه الأدلة وهذا الفعل منها (إطالة
الشعر) وما دام أنه خلا من المقاصد والمعاني الشرعية صار إلحاقه بالفعل
الجبلي أولى من الشرعي.
2- النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه
وسلم في هذا الباب لا تدل على الأمر مطلقا فلا يستفاد منها إستحباب إطالة
الشعر إنما هي على سبيل الإرشاد والأدب في حال خاصة. فحديث (من كان له شعر
فليكرمه) فيه إرشاد من كان له شعر طويل إلى تنظيفه ودهنه وتسريحه والإعتناء
به ولا يدل على حث المسلمين على إطالة الشعر لأن الإكرام خاص لمن كان له
شعر فغاية ما في هذا النص الحث على النظافة والطهارة وحسن الهيئة لمن أطال
شعره فالإكرام سنة لإطالة الشعر. كما أرشد النبي
سلم أبا
قتادة بذلك روى النسائي في سننه عن أبي قتادة (أنه كان له جمة ضخمة فسأل
النبي
سلم فأمره أن يحسن إليها وأن يترجل كل يوم). وفي
رواية : (قلت : يا رسول الله : إن لي جمة أفأرجلها. قال : نعم أكرمها فكان
قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين من أجل قوله : أكرمها).
وكذلك الحديث
الآخر (احلقه أو اتركه) لا دلالة فيه أيضا لأن النبي
سلم
قال ذلك في سياق الرد والإنكار على من فعل القزع فأراد أن يبين أن المشروع
للمسلم أن يترك شعره كله أو يحلقه كله أما حلق بعضه وترك بعضه فلا يجوز له
فعل ذلك لأن فيه تشبه باليهود ولأنه مثلة فلم يرد النبي
سلم
فيما يظهر بيان حكم إطالة الشعر إبتداء وأنه سنة. بل فيه دليل على عدم
مشروعية إطالته لأن النبي
سلم خيره بين الحلق والترك ولو
كان الترك سنة لما خيره ولكان أرشده إلى الترك.
3- مما يرجح كونه
مباحا حلق النبي
سلم شعره في النسك فلو كان إطالة الشعر سنة
مطلقا لما حلق شعره في النسك ولأبقاه دائما. وترغيب الشارع في حلقه
وتقصيره في النسك يشعر أن إبقائه في غير النسك فعل مباح لا مشروعية فيه.
4-
لو كان إطالة الشعر مشروعا مقصودا من قبل الشارع لأرشد النبي صلى الله
عليه وسلم أمته إلى ذلك كما أرشدهم إلى إرخاء لحاهم ، أو بين لهم علة تدل
على مشروعيته. ولكن لا يحفظ عنه
سلم شيئا في ذلك بل روي عنه
أنه حلق أبناء جعفر بن أبي طالب بعد موته واستحسن حلق وائل بن حجر لشعره
الطويل. فشعور الإنسان من حيث الحكم ثلاثة أقسام:
1- قسم أمر الشرع
بإبقائه كاللحية.
2- قسم أمر الشرع بإزالته كشعر العانة والإبط والشارب.
3-
قسم سكت عنه كشعور اليدين والرجلين والبدن وشعر الرأس داخل في ذلك.
والحاصل
أن إطالة الرأس عمل مباح لا يتعلق به ثواب ولا عقاب من حيث أصله فليس
إطالته طاعة ولا حلقه معصية إلا إذا اقترن به قرينة تدل على مدحه أو ذمه
شرعا وكذلك الحكم في حلقه. ولذلك يستحب حلقه في النسك ويحرم حلقه تقربا في
غير النسك ويحرم إطالته تشبها بمن ينهى التشبه به ويباح إطالته موافقة
للعرف وقد يسن ذلك.
ومن يطيل شعره من الناس طائفتان:
الأولى: من
يفعل ذلك ديانة وقربة إلى الله وقد ظهر عليه سيما الصلاح والإستقامة. وهذا
الفعل محمود ويرجى فيه الثواب إذا روعي في ذلك أمران:
1- أن يقصد بذلك
التأسي بالنبي
سلم لعموم مشروعية التأسي به. قال تعالى:
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ
يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا).
2-
أن لا يكون في إطالته محذور شرعي كأن يكون فعله مخالفا لعرف قومه أو يكون
إطالة الشعر شعارا للفساق وزيا لهم. فإذا كان العرف السائد في قومه عدم
إطالة الشعر فيكره له فعله لأنه من الشهرة والشذوذ عنهم وقد يجلب على نفسه
الريبة. وإذا كان من زي الفساق فيحرم عليه التشبه بهم والوسائل لها أحكام
المقاصد. فقد ذم السلف ذلك. (كان عمر بن عبد العزيز إذا كان يوم الجمعة بعث
الأحراس فيأخذون بأبواب المسجد ولا يجدون رجلا موفر الشعر يعني مبذر الشعر
إلا جزوه) أخرجه ابن أبي شيبة. وقال ابن عبد البر: (صار أهل عصرنا لا يحبس
الشعر منهم إلا الجند عندنا لهم الجمم والوفرات وأضرب عنها أهل الصلاح
والستر والعلم حتى صار ذلك علامة من علاماتهم وصارت الجمم اليوم عندنا تكاد
تكون علامة السفهاء. وقد روي عن النبي
سلم أنه قال: من
تشبه بقوم فهو منهم أو حشر معهم). وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية:
(وينبغي أن يقال إن لم يخرج إلى شهرة أو نقص مروءة أو إزراء بصاحبه ونحو
ذلك كما قالوا في اللباس وهو مقتضى كلام أحمد).
والحاصل أن من أطال
شعره لقصد الإتباع ولم يراع هذه المقاصد وقع في محضور وخالف مقتضى الشرع من
حيث أراد التقرب وهذا يوجب على المتنسك أن يكون فقيها لمقاصد الشرع مراعيا
للأحوال مدركا لمعاني السنة.
الثانية: من يفعل ذلك تقليدا للكفار
أو تشبها بالنساء أو لاستمالة النساء والتجمل لهن ونحو ذلك من المقاصد
السيئة وقد ظهر عليه سيما أهل الفسق والبطالة. فهذا الفعل مذموم شرعا
وفاعله آثم مخالف للشرع لأن مقصده محظور شرعا ولأنه يستعين بهذا الفعل على
المعصية وكل مباح استعين به على فعل المحرم كان حكمه حراما مثله لأن
الوسائل لها أحكام المقاصد. وقد جاءت الشريعة بالنهي عن التشبه بالكفار
والنساء والفجار في نصوص كثيرة. قال رسول الله
سلم: (من
تشبه بقوم فهو منهم) رواه أبوداود. ومن كان يظهر عليه الفسق وادعى التأسي
بالنبي
سلم في تطويل شعره كذب في دعواه لكثرة مخالفته للسنة
في خصال كثيرة.
وأخيرا أوصي الشباب المتأثرين بالغرب أن يتوبوا إلى
الله ويقصروا رؤوسهم ويقلعوا عن تتبع الموضات والصرخات العصرية المحرمة.
وأوصي
أهل الإستقامة أن يراعوا عرف أهل الصلاح في قومهم وأن لا يطيلوا شعورهم
خشية التشبه بالفساق والشذوذ عن أهل المروءة والصلاح وأن يتمهلوا ويتمعنوا
في مقاصد الشرع وينظروا في كلام العلماء الكبار. قال شيخنا ابن عثيمين رحمه
الله: (إطالة شعر الرأس لا بأس به ، فقد كان النبي
سلم له
شعر يقرب أحيانا إلى منكبيه ، فهو على الأصل لا بأس به ، ولكن مع ذلك هو
خاضع للعادات والعرف ، فإذا جرى العرف واستقرت العادة بأنه لا يستعمل هذا
الشيء إلا طائفة معينة نازلة في عادات الناس وأعرافهم فلا ينبغي لذوي
المروءة أن يستعملوا إطالة الشعر 000، فإذا جرى بها العرف وصارت للناس كلهم
شريفهم و وضيعهم فلا بأس به ، أما إذا كانت لا تستعمل إلا عند أهل الضعة
فلا ينبغي لذوي الشرف والجاه أن يستعملوها).
والله أعلم وصلى الله وسلم
على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.