بسم الله الرحمان الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته
ان شاء الله تكونو بالف خير
تمهيد
: هذه ترجمة أحد ألمع و أبرز العلماء الأجلاء الذين أنجبتهم المنطقة وهو
العلامة الشيخ ، أبو القاسم محمد الحفناوي بن سيدي إبراهيم الغول ، صاحب
الكتاب المشهور" تعريف الخلف برجال السلف "، كتبها تلميذه – الذي كان
ملازما له طيلة إقامته في العاصمة – المؤرخ الجزائري الكبير العلامة الشيخ "
عبد الرحمان بن محمد الجيلالي " – حفظه الله و نفعنا بعلمه – في كتابه
القيم " تاريخ الجزائر العام " في قسم : من مشاهير الجزائر ( ج : 4 ،ص :
425-435 – الطبعة السابعة 1415 هـ/ 1994م – ديوان المطبوعات الجامعية
الجزائر ).
نقلتها خصيصا لمنتديات المسيلة حرفيا بدو ن زيادة أو نقصان لتعميم الفائدة.
اللهم تجاوز عن تقصيرنا و أخطائنا ، و ألهمنا الصواب و الحكمة ، و أعفو عنا جميعا – آمين –
أبو القاسم محمد الحفناوي
1266 – 1360 هـ
1850 – 1942 م
شيخنا
العالم المحقق الفهامة المدقق الأستاذ أبو القاسم محمد الحفناوي بن الشيخ
بن أبي القاسم الملقب و المعروف بابن عروس بن الصغير بن محمد – بفتح الميم –
المبارك الديسي يتصل نسبه بولي مدينة ( بوسعادة ) صاحب الضريح الشهير بها
سيدي إبراهيم ( الغول ) و أمه السيدة خديجة بنت الشيخ العالم الأصولي
المدرس محمد المازري الديسي.
ولد قدس الله روحه بقرية (
الديس ) قرب مدينة بوسعادة حوالي سنة 1266هـ/1850 فنشأ في حجر والديه
الأكرمين فحفظ القرآن الحكيم و وعاه عن ظهر قلب عن الشيخ الصالح العالم
الشاعر محمد بن عبد الرحمن ( البصير ) الديسي ، و لقد كان كل من أقربائه و
ذويه يحفظون القرآن الكريم مع ما لابد منه من علوم الدين و قواعد اللغة ،
أما والده فكان من أعيان علماء عصره في اللغة و الأدب و الفقه و التوحيد و
إليه كانت المرحلة في طلب النحو و الصرف و التوحيد و المنطق و الفقه و
الحساب و علوم البلاغة و العروض ، فعنه كانت تؤخذ هذه العلوم كلها بتلك
الأصقاع ، استدعي للتدريس بمختلف زوايا البلاد و معاهدها الدينية ، و تخرج
على يده عدد وافر من الطلبة انتشر صيتهم ما بين قسنطينة إلى سوف و من نفطة
إلى الأغواط ، و منهم الشاعر المؤلف الشيخ محمد بن عبد الرحمن الديسي
الكفيف ، ثم انقطع في بيته مشتغلا بكسب عيشه بطريق الزراعة و تربية الماشية
و تعليم أبناء الناحية مع أولاده الذين كان منهم ولده مترجمنا شيخنا
الحفناوي.
أخذ الحفناوي مبادئ العلوم عن والده و كان ذا
قريحة وقادة مع سرعة في الحفظ حتى أنه كان في بعض الأحيان يحفظ الصفحة من
الكتاب من مطالعتها مرتين في الوقت فقط ، ثم ارتحل بإذن والده إلى الاتصال
بمشيخة كبار معاهد العلم و الزوايا الشهيرة في وقته ، فنزل بزاوية طولقة من
ولاية بسكرة و اتصل بشيخها الحفناوي بن الشيخ علي بن عمرو مؤسس الزاوية ، و
هو من تلامذة والد المترجم له ، فأخذ عنه و عن الشيخ مصطفى بن عبد القادر
ما عهد تدريسه بالزوايا يومئذ من علوم الشريعة و الأدب و مكث هناك أربع
سنين ، ثم انتقل منها طلبا للاستزادة من تحصيل العلم بالتلقي عن الرجال
فنزل بزاوية الشيخ ابن أبي داود بتاسيلت في بلد آقبو من أرض زواوة قضى بها
ثلاث سنوات أخذ فيها علوم القرآن الكريم مع دراسة الفقه و الفلك على الشيخ
محمد الطيب بن أبي داود الزواوي ، ثم عاد إلى بوسعادة و التحق بزاوية الشيخ
البركة محمد بن أبي القاسم الشريف الهاملي فجاور بها سنتين أخذ فيهما
التفسير بالحديث الشريف عن مؤسس زاوية الهامل نفسه و كل من هؤلاء المشائخ
المذكورين أجاز مترجمنا بإجازة تشهد لصاحبها بالتحصيل مع الإذن له في
التعليم . ثم انقطع إلى أسرته بالديس عاكفا على المطالعة و البحث مع تحقيق
المسائل و تصحيحها على والده و على الشيخ محمد الصديق الديسي ...
و
في هذه الفترة ( 1293هـ/1876م ) حضر لديهم العلامة الإمام الشيخ محمد
المكي بن عزوز جاء من تونس كعادته ليزور جده لأم ( الشيخ بن عروس ) الذي هو
والد الشيخ الحفناوي فانتهزها شيخنا فرصة سانحة فأخذ عن ابن أخته علم
الربع المجيب بأرجوزته التي وضعها في هذا الفن المسماة بـ ( الجوهر المرتب
في العمل بالربع المجيب ) مطبوعة و قد قرأناها عليه و أمرني بشرحها فكتبت
عليها شرحا وافيا و لم تكن مشروحة من قبل إلا ما كتبه واضعها حول تراجم
أبوابها فيما أسماه " التقرار المهذب في حل تراجم أبواب الجوهر المرتب "
مطبوع و كما أخذ عنه أيضا علم العروض مع أشياء أخرى و فوائد كثيرة.
و
سألته يوما عن الدافع الموجب أو الباعث السعيد الذي كان سببا في انتقاله
عن إقامته في مسقط رأسه ( الديس – بوسعادة ) إلى سكني العاصمة ؟..
فقال
لي يا ولدي إنني لما كنت بقريتنا الديس كنت مشغوفا بمطالعة الكتب و أختار
منها ما تميل إليه نفسي و يشتهيه خاطري ، و كان فيما طالعته هناك و ختمته
مرارا كتابان جليلان ، و هما " كشف الظنون عن أسامي الكتب و الفنون " لحاجي
خليفة و الثاني هو " مقدمة ابن خلدون " ، قال : فأعجبت بهما معا غاية
الإعجاب و ملكا علي حواسي فاشتدت رغبتي في تحصيل العلم و تاقت نفسي إلى
البحث عمن يحسن من العلماء ما احتوى عليه هذان الكتابان من معارف ، فقلت إن
ذلك لا يوجد إلا في العواصم ، فهذا ما دفعني إلى شد الرحل إلى مدينة
الجزائر باحثا عن عالم بصير بما هنالك ...
و نزل أستاذنا
الحفناوي العاصمة سنة 1300هـ/1883م يحمل معه كتبا في فنون من علم المعقول و
كان من بينها كتاب للجغميني الفلكي في علم الهيئة ( مخطوط ) و صحب معه آلة
الإسطرلاب و أخذ يبحث عن علماء عاصمة الجزائر. فدل على دكان الوجيه
المرحوم سيد علي ابن الحداد ، و كان متجرا تلتقي فيه النخبة العلمية
بالعاصمة في ذلك التاريخ فذهب إليه و بيده آلة الإسطرلاب الذي أحضره معه
يوم أن جاء من ( الديس ) فاجتمع ببعض من حضر في ذلك الوقت من العلماء و
تباحث معه في شأن الإسطرلاب فلم يجد عنده علما بهذا الشأن فسقط في يد الشيخ
..
و في العاصمة تعرف إلى فئة طيبة من العلماء كان منهم
الشيخ علي بن الحفاف المفتي المالكي و مدرس الجامع الكبير و إمامه الأول
الشيخ محمد القزادري و الأستاذ الشيخ حسن بريهمات مدير المدرسة. فاقترح
عليه هذا الأخير ليكون في صف إخوانه أساتذة المدرسة معلما، و كان الشيخ
القزادري المذكور منهم ، فامتنع شيخنا من ذلك و قال : إنما جئت طالبا للعلم
متعلما لا معلما ، و لكن الجماعة رأت فيه الكفاءة التامة ليؤخذ عنه العلم
فألحت عليه و أكدت في اقتراحها هذا حتى نزل عند اقتراحها و تقلد منصب
التدريس بالمدرسة. و أقبل عليه مديرها حسن بريهمات معجبا بعلمه و أدبه و
حسن أخلاقه و تصدى الشيخ لبث معارفه بين صفوف التلاميذ و لم تزد مدة ذلك عن
خمسة أشهر فتوفي المدير حسن بريهمات رحمه الله فرثاه شيخنا على قبره
بأبيات من الشعر ، ثم غادر المدينة عائدا إلى مسقط رأسه ديس بوسعادة ، و في
ذلك نراه يروي لنا قصته هذه بنفسه في كتابه الحافل " تعريف الخلف برجال
السلف " فيقول :
" لما ساقتني الأقدار إلى الجزائر كان المرحوم –
حسن بريهمات – أول من ضمني إليه و أطلعني على غثها و سمينها ، و قد جئتها
طالب علم علمائها و زيارة أهلها فأغناني عن إحيائها بما عنده في المدرسة
الدولية و كان رئيس إدارتها إلى أن توفي رحمه الله يوم 10 جمادى الأولى سنة
1301 هـ مأسوفا عليه .... " (1).
و ما كاد الشيخ يستقر
مطمئنا بين أهله و ذويه في الديس حتى فوجئ بدعوة رسمية جاءته من الولاية
العامة بالعاصمة تدعوه إلى الالتحاق بمركز الإدارة بالجزائر، فعاد الشيخ
إلى العاصمة من غير أن يدري السبب، فلما عاد (1301هـ/1884م) قدم للتحرير
بإدارة جريدة المبشر الرسمية في مكان الوطني الغيور المرحوم الشيخ أحمد
البديوي، فكان هذا مما دفع بشيخنا أيضا إلى درس اللغة الفرنسية و الإطلاع
بها على العلوم العصرية مع مشاركة و إلمام بالتقنيات، و كان شيخه فيها كما
يقول هو : العالم المستشرق ( أرنو) رئيس المترجمين بالإدارة، فاعترف له
الشيخ بهذا الجميل و ذكره في كتابه الخالد " تعريف الخلف" فقال :
"
هو شيخي في العلوم العصرية و معلمي اللغة الفرنسوية ، و مساعدي على طلبها ،
و بتربيته العقلية و العلمية ارتقيت إلى درجة أفتخر بها على أبناء وطني ، و
نلت منه معارف كثيرة لأنه – أحسن الله إليه – كان لا يتكلم إلا لحكمة و لا
يسكت إلا لها ، و هو الذي علمني التواضع القلبي و الترفع القالبي على أهل
الكبرياء ، فلله دره من شيخ حكيم .... لازمته في جريدة المبشر و كان مديره و
أنا كاتبه مدة اثني عشر عاما ...." (2)
و عندما اشتغل أرنو
هذا بترجمة فصل ( فن التصوف ) من كتاب سعود المطالع لعبد الهادي نجا
الأبياري و عمل على نقله إلى اللغة الفرنسية ، كان شيخنا يساعده على شرح
النصوص الصوفية التي جاء بها المؤلف و قد صدر هذا البحث منشورا باللغتين
العربية و الفرنسية – الجزائر – سنة 1305هـ/1889م.
و لقد بلغ من شدة
تعلقه بالتقنيات و الفنون العصرية أن كان هو أول من امتلك من المسلمين
بالعاصمة آلة الفونوغراف أو الجهاز الحاكي – بالجزائر فكان بذلك أول بيت
لمسلم جزائري سمع فيه صوت الحاكي ، هو بيت الحفناوي.
و تزوج الشيخ من أسرة جزائرية فأنجب ذكرا واحدا و ثلاث بنات ...
و
من شدة توقانه إلى حب الإطلاع على مستحدثات الأشياء و المخترعات الحديثة
أنه كان كثيرا ما يتردد على الأسواق العمومية حيث تباع فيها الأشياء
القديمة أو ما استغنى عن استعماله من الأجهزة البالية فيشتري منها الشيخ
هاتيك الآلات و الماكينات الخفيفة و يأخذ في فحصها بتفكيك أجزائها كلها ثم
يحاول بنفسه تركيبها ثانيا و ردها إلى ما كانت عليه من قبل و لا عليه بعد
ذلك فيما إذا وفق إلى غرضه أم لم يوفق ، كل ذلك حبا في الاطلاع و المعرفة و
كان إلى ذلك شغوفا بفن الرسم و التصوير ، و معجبا مغرما كذلك بما جاء به
فطاحل رجال التصوف الإسلامي و أعيان علمائه من آراء فلسفية و أفكار غريبة
عجيبة ، فكان يقدمها لنا بكل احترام و يشرحها شرحا دقيقا حسبما يبلغ إليه
فهمه و يكل ما غمض منها إلى الله و لا سيما منها آراء ابن عربي في فتوحاته و
الدباغ في الإبريز فقد كان له ذوق ممتاز و خاص به في فهم كلامهما و شرحه. و
هذا يقرب لما حكاه محمد رشيد رضا على الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فقال
: قد أخبرني أن كتاب الفتوحات المكية عنده كتاريخ ابن الأثير ، لا يقف
فهمه في شيء منه. ( تاريخ الأستاذ الإمام ج 1 ص 126 ط القاهرة 1350هـ/1931م
) و علق على كلام الإمام هذا بقوله : لأن لغوامضها مفتاحا من علمه لا يخفى
عليه شيء منها.
و في سنة 1314هـ/1897م شغر منصب التدريس
بالجامع الكبير في العاصمة فتقلده الشيخ بالإضافة إلى عمله الإداري و شرع
من حينه في تدريسه علوم الشريعة و الأدب ، فاقرأ الفقه و التوحيد و النحو و
الصرف و الحديث و اللغة و المنطق و الفلك و الحساب و أخذنا نحن ذلك عنه ، و
كان وئيدا في إلقاء الدرس لا يتسرع كثيرا متعمقا في البحث مع كثير من
التأمل و لما توفي المفتي المالكي الشيخ محمد أرزقي ابن ناصر توجهت الأنظار
إلى الشيخ الحفناوي ليتولى هذا المنصب الرفيع فتجاف رحمه الله عنه تخلصا
من عظم مسؤوليته السياسية و الإدارية و الدينية أيضا كما اخبرني بذلك هو عن
نفسه ، و أخيرا وقع الإجماع على تعيينه فقبله و لم يرفض (1343هـ/1925م)
و
تهاطل يومئذ على الشيخ كثير من رسائل التهاني و المدح – نظما و نثرا – و
فيها ما نشرته الصحف و المجلات ... و منها هذه القصيدة التالية التي وردت
على صحيفة النجاح – القسطنطينية – الجزائر – من القاهرة فنشرتها في عددها
الصادر يوم الجمعة 10 جويلية 1925م.
قالت الصحيفة :
تهنئة من القاهرة
وردت
علينا القصيدة البليغة الآتية لحضرة العلامة الأرفع صاحب الإمضاء في تهنئة
فضيلة الشيخ المفتي بالعاصمة الشيخ الحفناوي و قد عزمنا على أن نجعلها آخر
تهاني الشيخ إذ هي جديرة بأن تكون خاتمتها و هاهي بلفظها الشائق و إحكامها
الفائق :
إن بالغ الناس في الإطراء أو خطبـــوا۞ فما يفي بعلاك المدح و الخطب
ترنو العلى لك من وجد و من شغف ۞ فأنت أنت فتاها الحاذق الأرب
بصرت فيك من الحسنى بأربعــــــة ۞ الحزم و العزم والإنصاف والأدب
فلم نجدك طروبا عند معضلـة ۞ و لم تنل منك أخطار و لا ريب
و لم تزل عون مضطر يحيق به ۞ مستهدفات الأذى و الظلم و النوب
و ذا انتصاف له من ظالميه بما ۞ يقضي ذكاؤك و القانون و الكتب
قسطاس عدلك في الأشياء معتدل ۞ ومن سنى وجهك الأقمار تكتسب
لو خالك البدر يوما لانثنى خجلا ۞ و قال مندهشا سبحان من يهب
لله درك فـــردا في شمائلــــه ۞ ذا رقة تتهــادى مدحــه النجب
يهل شخصك في إنسان باصرتي ۞ فيستفزني الإعجاب و الطرب
سمــوت للمجـد وثابـا بفاضلـــة ۞ تبارك الله نبــل زانــه حســــب
سلالة "الغول إبراهيم" من وجدت ۞ فيه الكفـــاءة للافتــا كمـا يجـب
رحب الجناب جمال العلم أجلسه ۞ على بساط الهنا و العز لا النشب
سمت فضيلة (حفناوي) بنيل منى ۞ كما سما في السماء السبعة الشهب
فللجزائـر أن تهنـا بخيـر فتــى ۞ لقد توفــر فيــه الشرط و السبـب
فما بال أبنائها باتوا على ظمأ ۞ بما عليهم إذا من بـحره شربوا
هذا أوان حياة الروح فاغتنموا ۞ أرقى حياة فمحيي الروح محتسب
ما الجسم إلا بروح العلم معتبر ۞ جسما و إلا فمن أفراده الخشب
بدار إفتائه لأوذوا بني وطني ۞ فما على بابه المفتوح محتجب
يقضي و يمضي على أسلوب مذهبه ۞ كأنـه ( مالك ) يا حبـذا اللقــب
ألم يكن سيدا من معشر شرفت ۞ عجانهم للعلى يسمو بهم نسب
آثاره لم تزل في الكون مشرقة ۞ و من سنى شمسه قد زالت الحجب
و جاء وقت الهنا و الناس في جذل ۞ و ليس فيهم لفرط الوجد مكتئب
و في الجزائر عم البشر و انتشرت ۞ كتب التهاني فلبى العجم و العرب
و من قسنطينة جاء " النجاح" وفي ۞ أبهى صحيفته المشهورة الأرب
فضل النجاح عظيم ليس بنكره ۞ قراؤه ما نأوا دارا و ما قربوا
لولاه ما نهضت من(مصر)بنت حجا ۞ و لا أخلت (بنيل) ماؤه ضرب
من أزهري بدت تختال في حلل الــــ ۞ بهــا و في مجلس الآداب تتئب
فللجزائر ما تحتـــاج مــن أدب ۞ لقد تأتى لها ممن أتى الطلب
فكم إلى وصلــه تاقـت متيمــة ۞ و كم تمنت و نار الوجد تلتهب
آمالنا فيك أن تسعى بخدمتهــا ۞ فنحن أبنــاؤها حقا و أنت أب
و انظـر لأم تلاشى مجدها هـدرا ۞ فمـن لإحياء هذا المجد يرتقب
إن لم تكن همة المفتي فلا أحد ۞ يسعى لإحياء ما أودت به الحقب
و لا تـــدع أمــة ماتت معارفها ۞ على ذهاب تليد المجد تنتحب
حتى فشى الجهل في أبنائها وغدا ۞ يسطو عليهم و حق العلم مغتصب
فانهـض إلى رده رغمـا لمغتصـب ۞ حقـــا بواسطـــة التعليــم يجتلب
و بث في أمة علما تسود به ۞ فوصمـــة الجهل في أبنائها وصب
بنو الجزائر هم أبناؤكم أدبــــا ۞ لســان (تعريفكم) في مدحهم ذرب
إن لم تبرهن على ما فيك نعهده ۞ فكيــف يطمع في الإتيان مغترب
هذي مراتبكم تسعى لنحوكموا ۞ مثــل الكواكب للأفلاك تنتسـب
تبوأت منك فضلا فاستطاب لها ۞ نعم المناخ و نعم المنزل الرحب
فاليوم قد زنتها لما وصفت بها ۞ موافيا لما به في الناس تلتقب
فأقبل تهاني قلبي دمت مرتفعا ۞ يا من تعز به الألقاب و الرتب
الحسين بن أحمد البوزيدي أحد علماء الأزهر بمصر
و
لكنه رحمه الله كان يتفادى بقدر ما تسمح له الظروف مباشرة تسيير الأعمال
الإدارية المرتبطة بهذه الوظيفة الشريفة و بذلك أصبح يشغل وظائف ثلاثة ، و
ما رأيته منذ تولي هذا المنصب وقف خطيبا على منبر الجامع – مع ملازمتي له
من قبل التولية إلى وفاته – إلا مرة واحدة فقط ، و كان ذلك بإلحاح منا نحن
التلامذة فإننا لم نره تقدم إلى المحراب إماما إلا في هذه المرة فصلى
الجمعة فقط و هكذا دأبه دائما إذا حضرت الصلاة قدم أحد تلامذته ليؤمنا
جميعا في الصلاة ...
و سألته يوما هل تعرف إلى الشيخ محمد عبده و
اجتمع به يوم أن زار الأستاذ الإمام الجزائر سنة 1903 م... فقال لي نعم بل
أنا أول جزائري تشرف بالاجتماع به و التعرف بحضرته إطلاقا ، و ساق لنا قصته
يومئذ حينما كان قائما بمهمة إدارية بفرنسا في مكان مشرف على بحر المانش –
نسيت إسمه – قال و عندما انتهيت من تأدية المأمورية التي كلفت بها من طرف
الإدارة الجزائرية و أخذت في العودة إلى وطني (صيف سنة 1903م) صادفت و أنا
على ظهر الباخرة شيخا وقورا تلوح عليه أنوار المعرفة في مظهر شرقي ، رأيته
منفردا بنفسه في ناحية من الباخرة ، فقلت في نفسي هذا رجل مشرقي غريب يقصد
الجزائر ، فلا بد لي من أن أقوم بحق الضيافة فأذهب إليه لأزيل عنه وحشته
على الأقل ، فتقدمت نحوه و سلمت عليه فرد السلام فعلمت أنه مسلم و تحادثت
معه في شتى المواضيع حديثا عاما إلى أن خضنا في نشأة هذا الكون العجيب و ما
اشتمل عليه من معجزات ... و في أثناء الحديث سقت الآية الكريمة » أولم ير
الذين كفروا أن السموات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما الآية ... « و سألت
صاحبي عن فهمه لهذه الآية الشريفة ؟ ... فاندفع يتكلم عنها من نواح شتى ...
إلى أن رأيته وضع كفه على أختها فضمهما إلى بعضهما ثم فصلهما و قال لي :
كانتا هكذا فصارتا هكذا ...
فقلت في نفسي لعلا محمد عبده !... و قد كنا
قرأنا في الجرائد و أن الأستاذ الإمام هو عازم على زيارة الجزائر و تونس في
هذا الصيف ، فقلت له : ألستم فلان ؟ فقال نعم ، فحصل التعارف بيننا على
مائدة القرآن ، قال و حينما اقتربنا من الساحل و حان النزول من الباخرة
اتفقنا و تواصينا على كتم هذا اللقاء و هذا التعارف الحاصل بيننا نظرا إلى
ما كان يحوم حول الشيخ من الدسائس السياسية التي أثارها حوله بعض خصومه
بمناسبة زيارته هذه إلى المغرب العربي حيث بعثوا برسائل من الإسكندرية و
مصر إلى حكومة الجزائر يحذرونها مما عسى أن ينشره الأستاذ الإمام من
الأفكار الحرة بين شعوب المغرب العربي ، و لقد خشي شيخنا الحفناوي يومئذ من
أن تضايقه السلطة الحاكمة بالجزائر بسبب هذا الاتصال الذي وقع بينه و بين
الإمام ، فآثر كل منهما كتمان هذا اللقاء حتى لا يقع شيخنا في حرج ، و كان
الأمر كذلك فافترقا في الميناء و كل واحد منهما نكرة من النكرات عند الآخر ،
ثم كان اجتماعهما و لقاؤهما بعد ذلك في المدينة فيما ظهر للناس جديدا ، و
فعلا ذكر لنا من كان يحضر مجالس الإمام عبده في الجزائر أنه كان محاطا
برجال الجوسسة السرية حيث ما حل و ارتحل ، وهم يضبطون إسم كل من يلوذ
بالإمام أو يتصل به ، و لقد كان الشيخ عبده رحمه الله برا صادقا حين قال
قولته المشهورة عنه في السياسة : »... فإن شئت أن تقول أن السياسة تضطهد
الفكر أو العلم أو الدين فأنا معك من الشاهدين أعوذ بالله من السياسة «
و
فيما يرجع إلى نشاطه في ميدان التأليف نراه مؤلفا بارزا و كاتبا لامعا
فيما حرره في كتابه الحافل ، » تعريف الخلف برجال السلف « من جمعه لتراجم
طائفة من علماء الجزائر و خيرة أدبائها الأبرار الذين لولاه لما عرفهم
تاريخ الجزائر و لذهبت عنا أخبارهم مع الأيام ، و لولاه أيضا لضاع منا كثير
من تاريخ الحركة العقلية بالجزائر في العصر الحديث ، و الكتاب مطبوع في
العاصمة في جزئين سنة 1324 – 1327 هـ / 1906 – 1909 م و ذكر لي أنه كتبه
كله و هو عن طهارة كاملة إلى حد أنه كان يقلل جهده من شرب الماء حتى لا
يضطر إلى النهوض عن العمل لاسباغ الوضوء ، كما أنه ترجم عن الفرنسية –
بمشاركة ميرانت – كتابا في تدبير الصحة للحكيم (دركل) و اسمه كتاب الخير
المنتشر في حفظ صحة البشر ، طبع بالجزائر سنة 1326 هـ / 1908 م ، و كتاب
القول الصحيح في منافع التلقيح و كتاب الحكيم (ريسر) فيما يتعلق بتربية
النحل و استثمار العسل ، أسماه رفع المحل في تربية النحل ، و كلاهما مطبوع
بالجزائر في مطبعة فونطانا بدون تاريخ ، و له مقالات في الأدب و السياسة و
الاجتماع و بحوث علمية كثيرة صدرت بجريدتي المبشر و كوكب افريقية ، و له
مقطوعات شعرية نظمها في مناسبات و أغراض مختلفة .
و له من
غير المطبوع كتاب المستطاب في أقسام الخطاب و »غوص الفكر« في حروف المعاني
وهو رجز مشروح بقلمه أسماه صوغ الدرر على غوص الفكر و أرجوزة له أخرى نظمها
في جغرافية ابن خلدون و بحثه حول الأقاليم السبعة الخ...
و
هذه قطعة نثرية موجزة نسوقها كنموذج لإنشائه العلمي الرشيق و أسلوبه في
بحثه الفلسفي الدقيق . فلقد جاء مستدلا فيها على واجب الوجود سبحانه بطريقة
منطقية عجيبة مرتكزا فيها على الظاهرة الطبيعية : ( الرعد ) و منطلقا من
صوته فقال :
» كون الرعد اسما لمسمى موجود أمر يعترف به كل
ذي سمع حتى الحيوان البهيم ، و لكن ما هو هذا المسمى الذي لا شك في وجوده و
له في كل لغة اسم معلوم ؟ ... فهل هو الصوت القوي ؟ أو هناك مصوت هو صاحب
الصوت ؟ ... لا أحد من أهل العقول يسلم بأن الصوت يصوت ، فلزم أن هناك مصوت
، و حينئذ يقال ما هو هذا الصوت ؟ ... قال أهل الوقوف عند الحس هو اصطكاك
السحاب ، و قال أهل الكهرباء هو اجتماع موجبها بسالبها ، و قال أهل الدين
هو ملك أي جسم نوراني عاقل لا تدركه الحواس يسوق السحاب بسوطه و هو البرق ،
و يزجره بصوته و هو الرعد ،
إذا تأملنا في الصوت وجدناه دليل
الحركة مباشرة و دليل الحياة و الحرارة و النور بواسطتها ، إذ لا وجود
للحركة بدون صوت ، و لا صوت بدون حياة ، و لا حياة بدون حرارة ، و لا حرارة
بدون نور .، فالنور دليل الحرارة ، و الحرارة دليل الصوت ، و الصوت دليل
الحركة ، و الحركة دليل الحياة ، و الحياة دليل الوجود ، و الموجود دليل
الموجد – بفتح الجيم – و الموجد دليل الموجد – بالكسر – و الموجد هو غير
الموجد من كل وجه .، فليتأمل و ليعلم أن الرعد صوت حركة حار مستتر حي هو
الذي نسميه نحن ملكا ، و هو الاسم الديني و لا علينا في من سماه بغير ذلك
من الألفاظ الاصطلاحية التي ليس تحتها من المسميات إلا ما لا طاقة للعلم
بتفسيرها «. منقولا من خطه.
و خلاصة ما يقال عن أخلاقه
الدمثة و سجاياه الكريمة رحمه الله فكأنما هي سبكت من الذهب المصفى نبلا و
كرما و أريحية و مروءة ... و ما رئي يوما محتدما أو غضبانا فكان لا يعرف
للغضب و لا للعتاب أو التعنيف لفظا و لا معنى ، و كان فيه من خصال النبوة
كما يقول ابن عباس رضي الله عنه – حسبما جاء في الموطأ : القصد و التؤدة و
حسن السمت ...
و أما عن خلقته الطبيعية و صفاته الذاتية فإنه كان
تام الخلق قوي البنية أبيض البشرة ، ريان المفاصل جميل الشيبة ، من أجمل
الناس صورة و أكملهم خلقة ، و آنقهم شكلا و أحسنهم هيئة و سمتا ، و في آخر
حياته أبتلي رحمه الله بما أبتلي به كثير من العلماء الأعلام من مرض الشلل
فهذا الجاحظ ، و هذا ابن دريد ، و هذا ابن عبد ربه ، و هذا ابن أخته
العلامة محمد المكي ابن عزوز ، و هذا ناصيف اليازجي ... كلهم نراه قد شكى
هذا الداء العضال داء الفالج أو الشلل و كذلك وقع لشيخنا رحمه الله ، و بعد
ما أصابه الداء و ايس من العلاج ارتحل من العاصمة إلى مسقط رأسه بقرية (
الديس ) و هناك قضى بقية أيام حياته سقيما صابرا إلى أن توفاه الله الجمعة
21 ذي الحجة سنة 1360 هـ / 10 جانفي 1942 م و دفن إلى جانب أبويه بمقبرة
الديس في بوسعادة تغمدهم الله برحمته.
السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته
ان شاء الله تكونو بالف خير
تمهيد
: هذه ترجمة أحد ألمع و أبرز العلماء الأجلاء الذين أنجبتهم المنطقة وهو
العلامة الشيخ ، أبو القاسم محمد الحفناوي بن سيدي إبراهيم الغول ، صاحب
الكتاب المشهور" تعريف الخلف برجال السلف "، كتبها تلميذه – الذي كان
ملازما له طيلة إقامته في العاصمة – المؤرخ الجزائري الكبير العلامة الشيخ "
عبد الرحمان بن محمد الجيلالي " – حفظه الله و نفعنا بعلمه – في كتابه
القيم " تاريخ الجزائر العام " في قسم : من مشاهير الجزائر ( ج : 4 ،ص :
425-435 – الطبعة السابعة 1415 هـ/ 1994م – ديوان المطبوعات الجامعية
الجزائر ).
نقلتها خصيصا لمنتديات المسيلة حرفيا بدو ن زيادة أو نقصان لتعميم الفائدة.
اللهم تجاوز عن تقصيرنا و أخطائنا ، و ألهمنا الصواب و الحكمة ، و أعفو عنا جميعا – آمين –
أبو القاسم محمد الحفناوي
1266 – 1360 هـ
1850 – 1942 م
شيخنا
العالم المحقق الفهامة المدقق الأستاذ أبو القاسم محمد الحفناوي بن الشيخ
بن أبي القاسم الملقب و المعروف بابن عروس بن الصغير بن محمد – بفتح الميم –
المبارك الديسي يتصل نسبه بولي مدينة ( بوسعادة ) صاحب الضريح الشهير بها
سيدي إبراهيم ( الغول ) و أمه السيدة خديجة بنت الشيخ العالم الأصولي
المدرس محمد المازري الديسي.
ولد قدس الله روحه بقرية (
الديس ) قرب مدينة بوسعادة حوالي سنة 1266هـ/1850 فنشأ في حجر والديه
الأكرمين فحفظ القرآن الحكيم و وعاه عن ظهر قلب عن الشيخ الصالح العالم
الشاعر محمد بن عبد الرحمن ( البصير ) الديسي ، و لقد كان كل من أقربائه و
ذويه يحفظون القرآن الكريم مع ما لابد منه من علوم الدين و قواعد اللغة ،
أما والده فكان من أعيان علماء عصره في اللغة و الأدب و الفقه و التوحيد و
إليه كانت المرحلة في طلب النحو و الصرف و التوحيد و المنطق و الفقه و
الحساب و علوم البلاغة و العروض ، فعنه كانت تؤخذ هذه العلوم كلها بتلك
الأصقاع ، استدعي للتدريس بمختلف زوايا البلاد و معاهدها الدينية ، و تخرج
على يده عدد وافر من الطلبة انتشر صيتهم ما بين قسنطينة إلى سوف و من نفطة
إلى الأغواط ، و منهم الشاعر المؤلف الشيخ محمد بن عبد الرحمن الديسي
الكفيف ، ثم انقطع في بيته مشتغلا بكسب عيشه بطريق الزراعة و تربية الماشية
و تعليم أبناء الناحية مع أولاده الذين كان منهم ولده مترجمنا شيخنا
الحفناوي.
أخذ الحفناوي مبادئ العلوم عن والده و كان ذا
قريحة وقادة مع سرعة في الحفظ حتى أنه كان في بعض الأحيان يحفظ الصفحة من
الكتاب من مطالعتها مرتين في الوقت فقط ، ثم ارتحل بإذن والده إلى الاتصال
بمشيخة كبار معاهد العلم و الزوايا الشهيرة في وقته ، فنزل بزاوية طولقة من
ولاية بسكرة و اتصل بشيخها الحفناوي بن الشيخ علي بن عمرو مؤسس الزاوية ، و
هو من تلامذة والد المترجم له ، فأخذ عنه و عن الشيخ مصطفى بن عبد القادر
ما عهد تدريسه بالزوايا يومئذ من علوم الشريعة و الأدب و مكث هناك أربع
سنين ، ثم انتقل منها طلبا للاستزادة من تحصيل العلم بالتلقي عن الرجال
فنزل بزاوية الشيخ ابن أبي داود بتاسيلت في بلد آقبو من أرض زواوة قضى بها
ثلاث سنوات أخذ فيها علوم القرآن الكريم مع دراسة الفقه و الفلك على الشيخ
محمد الطيب بن أبي داود الزواوي ، ثم عاد إلى بوسعادة و التحق بزاوية الشيخ
البركة محمد بن أبي القاسم الشريف الهاملي فجاور بها سنتين أخذ فيهما
التفسير بالحديث الشريف عن مؤسس زاوية الهامل نفسه و كل من هؤلاء المشائخ
المذكورين أجاز مترجمنا بإجازة تشهد لصاحبها بالتحصيل مع الإذن له في
التعليم . ثم انقطع إلى أسرته بالديس عاكفا على المطالعة و البحث مع تحقيق
المسائل و تصحيحها على والده و على الشيخ محمد الصديق الديسي ...
و
في هذه الفترة ( 1293هـ/1876م ) حضر لديهم العلامة الإمام الشيخ محمد
المكي بن عزوز جاء من تونس كعادته ليزور جده لأم ( الشيخ بن عروس ) الذي هو
والد الشيخ الحفناوي فانتهزها شيخنا فرصة سانحة فأخذ عن ابن أخته علم
الربع المجيب بأرجوزته التي وضعها في هذا الفن المسماة بـ ( الجوهر المرتب
في العمل بالربع المجيب ) مطبوعة و قد قرأناها عليه و أمرني بشرحها فكتبت
عليها شرحا وافيا و لم تكن مشروحة من قبل إلا ما كتبه واضعها حول تراجم
أبوابها فيما أسماه " التقرار المهذب في حل تراجم أبواب الجوهر المرتب "
مطبوع و كما أخذ عنه أيضا علم العروض مع أشياء أخرى و فوائد كثيرة.
و
سألته يوما عن الدافع الموجب أو الباعث السعيد الذي كان سببا في انتقاله
عن إقامته في مسقط رأسه ( الديس – بوسعادة ) إلى سكني العاصمة ؟..
فقال
لي يا ولدي إنني لما كنت بقريتنا الديس كنت مشغوفا بمطالعة الكتب و أختار
منها ما تميل إليه نفسي و يشتهيه خاطري ، و كان فيما طالعته هناك و ختمته
مرارا كتابان جليلان ، و هما " كشف الظنون عن أسامي الكتب و الفنون " لحاجي
خليفة و الثاني هو " مقدمة ابن خلدون " ، قال : فأعجبت بهما معا غاية
الإعجاب و ملكا علي حواسي فاشتدت رغبتي في تحصيل العلم و تاقت نفسي إلى
البحث عمن يحسن من العلماء ما احتوى عليه هذان الكتابان من معارف ، فقلت إن
ذلك لا يوجد إلا في العواصم ، فهذا ما دفعني إلى شد الرحل إلى مدينة
الجزائر باحثا عن عالم بصير بما هنالك ...
و نزل أستاذنا
الحفناوي العاصمة سنة 1300هـ/1883م يحمل معه كتبا في فنون من علم المعقول و
كان من بينها كتاب للجغميني الفلكي في علم الهيئة ( مخطوط ) و صحب معه آلة
الإسطرلاب و أخذ يبحث عن علماء عاصمة الجزائر. فدل على دكان الوجيه
المرحوم سيد علي ابن الحداد ، و كان متجرا تلتقي فيه النخبة العلمية
بالعاصمة في ذلك التاريخ فذهب إليه و بيده آلة الإسطرلاب الذي أحضره معه
يوم أن جاء من ( الديس ) فاجتمع ببعض من حضر في ذلك الوقت من العلماء و
تباحث معه في شأن الإسطرلاب فلم يجد عنده علما بهذا الشأن فسقط في يد الشيخ
..
و في العاصمة تعرف إلى فئة طيبة من العلماء كان منهم
الشيخ علي بن الحفاف المفتي المالكي و مدرس الجامع الكبير و إمامه الأول
الشيخ محمد القزادري و الأستاذ الشيخ حسن بريهمات مدير المدرسة. فاقترح
عليه هذا الأخير ليكون في صف إخوانه أساتذة المدرسة معلما، و كان الشيخ
القزادري المذكور منهم ، فامتنع شيخنا من ذلك و قال : إنما جئت طالبا للعلم
متعلما لا معلما ، و لكن الجماعة رأت فيه الكفاءة التامة ليؤخذ عنه العلم
فألحت عليه و أكدت في اقتراحها هذا حتى نزل عند اقتراحها و تقلد منصب
التدريس بالمدرسة. و أقبل عليه مديرها حسن بريهمات معجبا بعلمه و أدبه و
حسن أخلاقه و تصدى الشيخ لبث معارفه بين صفوف التلاميذ و لم تزد مدة ذلك عن
خمسة أشهر فتوفي المدير حسن بريهمات رحمه الله فرثاه شيخنا على قبره
بأبيات من الشعر ، ثم غادر المدينة عائدا إلى مسقط رأسه ديس بوسعادة ، و في
ذلك نراه يروي لنا قصته هذه بنفسه في كتابه الحافل " تعريف الخلف برجال
السلف " فيقول :
" لما ساقتني الأقدار إلى الجزائر كان المرحوم –
حسن بريهمات – أول من ضمني إليه و أطلعني على غثها و سمينها ، و قد جئتها
طالب علم علمائها و زيارة أهلها فأغناني عن إحيائها بما عنده في المدرسة
الدولية و كان رئيس إدارتها إلى أن توفي رحمه الله يوم 10 جمادى الأولى سنة
1301 هـ مأسوفا عليه .... " (1).
و ما كاد الشيخ يستقر
مطمئنا بين أهله و ذويه في الديس حتى فوجئ بدعوة رسمية جاءته من الولاية
العامة بالعاصمة تدعوه إلى الالتحاق بمركز الإدارة بالجزائر، فعاد الشيخ
إلى العاصمة من غير أن يدري السبب، فلما عاد (1301هـ/1884م) قدم للتحرير
بإدارة جريدة المبشر الرسمية في مكان الوطني الغيور المرحوم الشيخ أحمد
البديوي، فكان هذا مما دفع بشيخنا أيضا إلى درس اللغة الفرنسية و الإطلاع
بها على العلوم العصرية مع مشاركة و إلمام بالتقنيات، و كان شيخه فيها كما
يقول هو : العالم المستشرق ( أرنو) رئيس المترجمين بالإدارة، فاعترف له
الشيخ بهذا الجميل و ذكره في كتابه الخالد " تعريف الخلف" فقال :
"
هو شيخي في العلوم العصرية و معلمي اللغة الفرنسوية ، و مساعدي على طلبها ،
و بتربيته العقلية و العلمية ارتقيت إلى درجة أفتخر بها على أبناء وطني ، و
نلت منه معارف كثيرة لأنه – أحسن الله إليه – كان لا يتكلم إلا لحكمة و لا
يسكت إلا لها ، و هو الذي علمني التواضع القلبي و الترفع القالبي على أهل
الكبرياء ، فلله دره من شيخ حكيم .... لازمته في جريدة المبشر و كان مديره و
أنا كاتبه مدة اثني عشر عاما ...." (2)
و عندما اشتغل أرنو
هذا بترجمة فصل ( فن التصوف ) من كتاب سعود المطالع لعبد الهادي نجا
الأبياري و عمل على نقله إلى اللغة الفرنسية ، كان شيخنا يساعده على شرح
النصوص الصوفية التي جاء بها المؤلف و قد صدر هذا البحث منشورا باللغتين
العربية و الفرنسية – الجزائر – سنة 1305هـ/1889م.
و لقد بلغ من شدة
تعلقه بالتقنيات و الفنون العصرية أن كان هو أول من امتلك من المسلمين
بالعاصمة آلة الفونوغراف أو الجهاز الحاكي – بالجزائر فكان بذلك أول بيت
لمسلم جزائري سمع فيه صوت الحاكي ، هو بيت الحفناوي.
و تزوج الشيخ من أسرة جزائرية فأنجب ذكرا واحدا و ثلاث بنات ...
و
من شدة توقانه إلى حب الإطلاع على مستحدثات الأشياء و المخترعات الحديثة
أنه كان كثيرا ما يتردد على الأسواق العمومية حيث تباع فيها الأشياء
القديمة أو ما استغنى عن استعماله من الأجهزة البالية فيشتري منها الشيخ
هاتيك الآلات و الماكينات الخفيفة و يأخذ في فحصها بتفكيك أجزائها كلها ثم
يحاول بنفسه تركيبها ثانيا و ردها إلى ما كانت عليه من قبل و لا عليه بعد
ذلك فيما إذا وفق إلى غرضه أم لم يوفق ، كل ذلك حبا في الاطلاع و المعرفة و
كان إلى ذلك شغوفا بفن الرسم و التصوير ، و معجبا مغرما كذلك بما جاء به
فطاحل رجال التصوف الإسلامي و أعيان علمائه من آراء فلسفية و أفكار غريبة
عجيبة ، فكان يقدمها لنا بكل احترام و يشرحها شرحا دقيقا حسبما يبلغ إليه
فهمه و يكل ما غمض منها إلى الله و لا سيما منها آراء ابن عربي في فتوحاته و
الدباغ في الإبريز فقد كان له ذوق ممتاز و خاص به في فهم كلامهما و شرحه. و
هذا يقرب لما حكاه محمد رشيد رضا على الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فقال
: قد أخبرني أن كتاب الفتوحات المكية عنده كتاريخ ابن الأثير ، لا يقف
فهمه في شيء منه. ( تاريخ الأستاذ الإمام ج 1 ص 126 ط القاهرة 1350هـ/1931م
) و علق على كلام الإمام هذا بقوله : لأن لغوامضها مفتاحا من علمه لا يخفى
عليه شيء منها.
و في سنة 1314هـ/1897م شغر منصب التدريس
بالجامع الكبير في العاصمة فتقلده الشيخ بالإضافة إلى عمله الإداري و شرع
من حينه في تدريسه علوم الشريعة و الأدب ، فاقرأ الفقه و التوحيد و النحو و
الصرف و الحديث و اللغة و المنطق و الفلك و الحساب و أخذنا نحن ذلك عنه ، و
كان وئيدا في إلقاء الدرس لا يتسرع كثيرا متعمقا في البحث مع كثير من
التأمل و لما توفي المفتي المالكي الشيخ محمد أرزقي ابن ناصر توجهت الأنظار
إلى الشيخ الحفناوي ليتولى هذا المنصب الرفيع فتجاف رحمه الله عنه تخلصا
من عظم مسؤوليته السياسية و الإدارية و الدينية أيضا كما اخبرني بذلك هو عن
نفسه ، و أخيرا وقع الإجماع على تعيينه فقبله و لم يرفض (1343هـ/1925م)
و
تهاطل يومئذ على الشيخ كثير من رسائل التهاني و المدح – نظما و نثرا – و
فيها ما نشرته الصحف و المجلات ... و منها هذه القصيدة التالية التي وردت
على صحيفة النجاح – القسطنطينية – الجزائر – من القاهرة فنشرتها في عددها
الصادر يوم الجمعة 10 جويلية 1925م.
قالت الصحيفة :
تهنئة من القاهرة
وردت
علينا القصيدة البليغة الآتية لحضرة العلامة الأرفع صاحب الإمضاء في تهنئة
فضيلة الشيخ المفتي بالعاصمة الشيخ الحفناوي و قد عزمنا على أن نجعلها آخر
تهاني الشيخ إذ هي جديرة بأن تكون خاتمتها و هاهي بلفظها الشائق و إحكامها
الفائق :
إن بالغ الناس في الإطراء أو خطبـــوا۞ فما يفي بعلاك المدح و الخطب
ترنو العلى لك من وجد و من شغف ۞ فأنت أنت فتاها الحاذق الأرب
بصرت فيك من الحسنى بأربعــــــة ۞ الحزم و العزم والإنصاف والأدب
فلم نجدك طروبا عند معضلـة ۞ و لم تنل منك أخطار و لا ريب
و لم تزل عون مضطر يحيق به ۞ مستهدفات الأذى و الظلم و النوب
و ذا انتصاف له من ظالميه بما ۞ يقضي ذكاؤك و القانون و الكتب
قسطاس عدلك في الأشياء معتدل ۞ ومن سنى وجهك الأقمار تكتسب
لو خالك البدر يوما لانثنى خجلا ۞ و قال مندهشا سبحان من يهب
لله درك فـــردا في شمائلــــه ۞ ذا رقة تتهــادى مدحــه النجب
يهل شخصك في إنسان باصرتي ۞ فيستفزني الإعجاب و الطرب
سمــوت للمجـد وثابـا بفاضلـــة ۞ تبارك الله نبــل زانــه حســــب
سلالة "الغول إبراهيم" من وجدت ۞ فيه الكفـــاءة للافتــا كمـا يجـب
رحب الجناب جمال العلم أجلسه ۞ على بساط الهنا و العز لا النشب
سمت فضيلة (حفناوي) بنيل منى ۞ كما سما في السماء السبعة الشهب
فللجزائـر أن تهنـا بخيـر فتــى ۞ لقد توفــر فيــه الشرط و السبـب
فما بال أبنائها باتوا على ظمأ ۞ بما عليهم إذا من بـحره شربوا
هذا أوان حياة الروح فاغتنموا ۞ أرقى حياة فمحيي الروح محتسب
ما الجسم إلا بروح العلم معتبر ۞ جسما و إلا فمن أفراده الخشب
بدار إفتائه لأوذوا بني وطني ۞ فما على بابه المفتوح محتجب
يقضي و يمضي على أسلوب مذهبه ۞ كأنـه ( مالك ) يا حبـذا اللقــب
ألم يكن سيدا من معشر شرفت ۞ عجانهم للعلى يسمو بهم نسب
آثاره لم تزل في الكون مشرقة ۞ و من سنى شمسه قد زالت الحجب
و جاء وقت الهنا و الناس في جذل ۞ و ليس فيهم لفرط الوجد مكتئب
و في الجزائر عم البشر و انتشرت ۞ كتب التهاني فلبى العجم و العرب
و من قسنطينة جاء " النجاح" وفي ۞ أبهى صحيفته المشهورة الأرب
فضل النجاح عظيم ليس بنكره ۞ قراؤه ما نأوا دارا و ما قربوا
لولاه ما نهضت من(مصر)بنت حجا ۞ و لا أخلت (بنيل) ماؤه ضرب
من أزهري بدت تختال في حلل الــــ ۞ بهــا و في مجلس الآداب تتئب
فللجزائر ما تحتـــاج مــن أدب ۞ لقد تأتى لها ممن أتى الطلب
فكم إلى وصلــه تاقـت متيمــة ۞ و كم تمنت و نار الوجد تلتهب
آمالنا فيك أن تسعى بخدمتهــا ۞ فنحن أبنــاؤها حقا و أنت أب
و انظـر لأم تلاشى مجدها هـدرا ۞ فمـن لإحياء هذا المجد يرتقب
إن لم تكن همة المفتي فلا أحد ۞ يسعى لإحياء ما أودت به الحقب
و لا تـــدع أمــة ماتت معارفها ۞ على ذهاب تليد المجد تنتحب
حتى فشى الجهل في أبنائها وغدا ۞ يسطو عليهم و حق العلم مغتصب
فانهـض إلى رده رغمـا لمغتصـب ۞ حقـــا بواسطـــة التعليــم يجتلب
و بث في أمة علما تسود به ۞ فوصمـــة الجهل في أبنائها وصب
بنو الجزائر هم أبناؤكم أدبــــا ۞ لســان (تعريفكم) في مدحهم ذرب
إن لم تبرهن على ما فيك نعهده ۞ فكيــف يطمع في الإتيان مغترب
هذي مراتبكم تسعى لنحوكموا ۞ مثــل الكواكب للأفلاك تنتسـب
تبوأت منك فضلا فاستطاب لها ۞ نعم المناخ و نعم المنزل الرحب
فاليوم قد زنتها لما وصفت بها ۞ موافيا لما به في الناس تلتقب
فأقبل تهاني قلبي دمت مرتفعا ۞ يا من تعز به الألقاب و الرتب
الحسين بن أحمد البوزيدي أحد علماء الأزهر بمصر
و
لكنه رحمه الله كان يتفادى بقدر ما تسمح له الظروف مباشرة تسيير الأعمال
الإدارية المرتبطة بهذه الوظيفة الشريفة و بذلك أصبح يشغل وظائف ثلاثة ، و
ما رأيته منذ تولي هذا المنصب وقف خطيبا على منبر الجامع – مع ملازمتي له
من قبل التولية إلى وفاته – إلا مرة واحدة فقط ، و كان ذلك بإلحاح منا نحن
التلامذة فإننا لم نره تقدم إلى المحراب إماما إلا في هذه المرة فصلى
الجمعة فقط و هكذا دأبه دائما إذا حضرت الصلاة قدم أحد تلامذته ليؤمنا
جميعا في الصلاة ...
و سألته يوما هل تعرف إلى الشيخ محمد عبده و
اجتمع به يوم أن زار الأستاذ الإمام الجزائر سنة 1903 م... فقال لي نعم بل
أنا أول جزائري تشرف بالاجتماع به و التعرف بحضرته إطلاقا ، و ساق لنا قصته
يومئذ حينما كان قائما بمهمة إدارية بفرنسا في مكان مشرف على بحر المانش –
نسيت إسمه – قال و عندما انتهيت من تأدية المأمورية التي كلفت بها من طرف
الإدارة الجزائرية و أخذت في العودة إلى وطني (صيف سنة 1903م) صادفت و أنا
على ظهر الباخرة شيخا وقورا تلوح عليه أنوار المعرفة في مظهر شرقي ، رأيته
منفردا بنفسه في ناحية من الباخرة ، فقلت في نفسي هذا رجل مشرقي غريب يقصد
الجزائر ، فلا بد لي من أن أقوم بحق الضيافة فأذهب إليه لأزيل عنه وحشته
على الأقل ، فتقدمت نحوه و سلمت عليه فرد السلام فعلمت أنه مسلم و تحادثت
معه في شتى المواضيع حديثا عاما إلى أن خضنا في نشأة هذا الكون العجيب و ما
اشتمل عليه من معجزات ... و في أثناء الحديث سقت الآية الكريمة » أولم ير
الذين كفروا أن السموات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما الآية ... « و سألت
صاحبي عن فهمه لهذه الآية الشريفة ؟ ... فاندفع يتكلم عنها من نواح شتى ...
إلى أن رأيته وضع كفه على أختها فضمهما إلى بعضهما ثم فصلهما و قال لي :
كانتا هكذا فصارتا هكذا ...
فقلت في نفسي لعلا محمد عبده !... و قد كنا
قرأنا في الجرائد و أن الأستاذ الإمام هو عازم على زيارة الجزائر و تونس في
هذا الصيف ، فقلت له : ألستم فلان ؟ فقال نعم ، فحصل التعارف بيننا على
مائدة القرآن ، قال و حينما اقتربنا من الساحل و حان النزول من الباخرة
اتفقنا و تواصينا على كتم هذا اللقاء و هذا التعارف الحاصل بيننا نظرا إلى
ما كان يحوم حول الشيخ من الدسائس السياسية التي أثارها حوله بعض خصومه
بمناسبة زيارته هذه إلى المغرب العربي حيث بعثوا برسائل من الإسكندرية و
مصر إلى حكومة الجزائر يحذرونها مما عسى أن ينشره الأستاذ الإمام من
الأفكار الحرة بين شعوب المغرب العربي ، و لقد خشي شيخنا الحفناوي يومئذ من
أن تضايقه السلطة الحاكمة بالجزائر بسبب هذا الاتصال الذي وقع بينه و بين
الإمام ، فآثر كل منهما كتمان هذا اللقاء حتى لا يقع شيخنا في حرج ، و كان
الأمر كذلك فافترقا في الميناء و كل واحد منهما نكرة من النكرات عند الآخر ،
ثم كان اجتماعهما و لقاؤهما بعد ذلك في المدينة فيما ظهر للناس جديدا ، و
فعلا ذكر لنا من كان يحضر مجالس الإمام عبده في الجزائر أنه كان محاطا
برجال الجوسسة السرية حيث ما حل و ارتحل ، وهم يضبطون إسم كل من يلوذ
بالإمام أو يتصل به ، و لقد كان الشيخ عبده رحمه الله برا صادقا حين قال
قولته المشهورة عنه في السياسة : »... فإن شئت أن تقول أن السياسة تضطهد
الفكر أو العلم أو الدين فأنا معك من الشاهدين أعوذ بالله من السياسة «
و
فيما يرجع إلى نشاطه في ميدان التأليف نراه مؤلفا بارزا و كاتبا لامعا
فيما حرره في كتابه الحافل ، » تعريف الخلف برجال السلف « من جمعه لتراجم
طائفة من علماء الجزائر و خيرة أدبائها الأبرار الذين لولاه لما عرفهم
تاريخ الجزائر و لذهبت عنا أخبارهم مع الأيام ، و لولاه أيضا لضاع منا كثير
من تاريخ الحركة العقلية بالجزائر في العصر الحديث ، و الكتاب مطبوع في
العاصمة في جزئين سنة 1324 – 1327 هـ / 1906 – 1909 م و ذكر لي أنه كتبه
كله و هو عن طهارة كاملة إلى حد أنه كان يقلل جهده من شرب الماء حتى لا
يضطر إلى النهوض عن العمل لاسباغ الوضوء ، كما أنه ترجم عن الفرنسية –
بمشاركة ميرانت – كتابا في تدبير الصحة للحكيم (دركل) و اسمه كتاب الخير
المنتشر في حفظ صحة البشر ، طبع بالجزائر سنة 1326 هـ / 1908 م ، و كتاب
القول الصحيح في منافع التلقيح و كتاب الحكيم (ريسر) فيما يتعلق بتربية
النحل و استثمار العسل ، أسماه رفع المحل في تربية النحل ، و كلاهما مطبوع
بالجزائر في مطبعة فونطانا بدون تاريخ ، و له مقالات في الأدب و السياسة و
الاجتماع و بحوث علمية كثيرة صدرت بجريدتي المبشر و كوكب افريقية ، و له
مقطوعات شعرية نظمها في مناسبات و أغراض مختلفة .
و له من
غير المطبوع كتاب المستطاب في أقسام الخطاب و »غوص الفكر« في حروف المعاني
وهو رجز مشروح بقلمه أسماه صوغ الدرر على غوص الفكر و أرجوزة له أخرى نظمها
في جغرافية ابن خلدون و بحثه حول الأقاليم السبعة الخ...
و
هذه قطعة نثرية موجزة نسوقها كنموذج لإنشائه العلمي الرشيق و أسلوبه في
بحثه الفلسفي الدقيق . فلقد جاء مستدلا فيها على واجب الوجود سبحانه بطريقة
منطقية عجيبة مرتكزا فيها على الظاهرة الطبيعية : ( الرعد ) و منطلقا من
صوته فقال :
» كون الرعد اسما لمسمى موجود أمر يعترف به كل
ذي سمع حتى الحيوان البهيم ، و لكن ما هو هذا المسمى الذي لا شك في وجوده و
له في كل لغة اسم معلوم ؟ ... فهل هو الصوت القوي ؟ أو هناك مصوت هو صاحب
الصوت ؟ ... لا أحد من أهل العقول يسلم بأن الصوت يصوت ، فلزم أن هناك مصوت
، و حينئذ يقال ما هو هذا الصوت ؟ ... قال أهل الوقوف عند الحس هو اصطكاك
السحاب ، و قال أهل الكهرباء هو اجتماع موجبها بسالبها ، و قال أهل الدين
هو ملك أي جسم نوراني عاقل لا تدركه الحواس يسوق السحاب بسوطه و هو البرق ،
و يزجره بصوته و هو الرعد ،
إذا تأملنا في الصوت وجدناه دليل
الحركة مباشرة و دليل الحياة و الحرارة و النور بواسطتها ، إذ لا وجود
للحركة بدون صوت ، و لا صوت بدون حياة ، و لا حياة بدون حرارة ، و لا حرارة
بدون نور .، فالنور دليل الحرارة ، و الحرارة دليل الصوت ، و الصوت دليل
الحركة ، و الحركة دليل الحياة ، و الحياة دليل الوجود ، و الموجود دليل
الموجد – بفتح الجيم – و الموجد دليل الموجد – بالكسر – و الموجد هو غير
الموجد من كل وجه .، فليتأمل و ليعلم أن الرعد صوت حركة حار مستتر حي هو
الذي نسميه نحن ملكا ، و هو الاسم الديني و لا علينا في من سماه بغير ذلك
من الألفاظ الاصطلاحية التي ليس تحتها من المسميات إلا ما لا طاقة للعلم
بتفسيرها «. منقولا من خطه.
و خلاصة ما يقال عن أخلاقه
الدمثة و سجاياه الكريمة رحمه الله فكأنما هي سبكت من الذهب المصفى نبلا و
كرما و أريحية و مروءة ... و ما رئي يوما محتدما أو غضبانا فكان لا يعرف
للغضب و لا للعتاب أو التعنيف لفظا و لا معنى ، و كان فيه من خصال النبوة
كما يقول ابن عباس رضي الله عنه – حسبما جاء في الموطأ : القصد و التؤدة و
حسن السمت ...
و أما عن خلقته الطبيعية و صفاته الذاتية فإنه كان
تام الخلق قوي البنية أبيض البشرة ، ريان المفاصل جميل الشيبة ، من أجمل
الناس صورة و أكملهم خلقة ، و آنقهم شكلا و أحسنهم هيئة و سمتا ، و في آخر
حياته أبتلي رحمه الله بما أبتلي به كثير من العلماء الأعلام من مرض الشلل
فهذا الجاحظ ، و هذا ابن دريد ، و هذا ابن عبد ربه ، و هذا ابن أخته
العلامة محمد المكي ابن عزوز ، و هذا ناصيف اليازجي ... كلهم نراه قد شكى
هذا الداء العضال داء الفالج أو الشلل و كذلك وقع لشيخنا رحمه الله ، و بعد
ما أصابه الداء و ايس من العلاج ارتحل من العاصمة إلى مسقط رأسه بقرية (
الديس ) و هناك قضى بقية أيام حياته سقيما صابرا إلى أن توفاه الله الجمعة
21 ذي الحجة سنة 1360 هـ / 10 جانفي 1942 م و دفن إلى جانب أبويه بمقبرة
الديس في بوسعادة تغمدهم الله برحمته.