هو
عبد الحميد بن محمد المصطفى بن المكي بن محمد كحول بن الحاج علي النوري بن
محمد بن محمد بن عبد الرحمان بن بركات بن عبد الرحمان بن باديس الصنهاجي.
ولد بمدينة قسنطينة يوم الأربعاء 11 ربيع الثاني 1307 هـ الموافق لـ 4 من
ديسمبر 1889 م على الساعة الرابعة بعد الظهر، وسجل يوم الخميس 12 ربيع
الثاني 1307 هـ الموافق لـ 5 ديسمبر 1889 م في سجلات الحالة المدنية التي
أصبحت منظمة وفي أرقى صورة بالنسبة لذلك العهد كون الفرنسيين أتموا ضبطها
سنة 1886 م.
كان
عبد الحميد الابن الأكبر لوالديه، فأمه هي : السيدة زهيرة بنت محمد بن عبد
الجليل بن جلول من أسرة مشهور بقسنطينة لمدة أربعة قرون على الأقل، وعائلة
"ابن جلول من قبيلة "بني معاف" المشهورة في جبال الأوراس، انتقل أحد
أفرادها إلى قسنطينة في عهد الأتراك العثمانيين وهناك تزوج أميرة تركية هي
جدة الأسرة (ابن جلول) ولنسبها العريق تزوجها والده محمد بن مصطفى بن
باديس (متوفى 1951 م) الذي شغل منصب مندوبا ماليا وعضوا في المجلس الأعلى
وباش آغا شرفيا، ومستشارا بلديا بمدينة قسنطينة ووشحت فرنسا صدره بميدالية
Chevalier de la légion la légion d’honneur،
وقد احتل مكانة مرموقة بين جماعة الأشراف وكان ذوي الفضل والخلق الحميد
ومن حفظة القرآن الكريم، ويعود إليه الفضل في إنقاذ سكان منطقة واد
الزناتي من الإبادة الجماعية سنة 1945 م على إثر حوادث 8 ماي المشهورة،
وقد اشتغل بالإضافة إلى ذلك بالفلاحة والتجارة، وأثرى فيهما.
أما
اخوته الستة : ال*********ر المدعو المولود، العربي، سليم، عبد المليك،
محمود وعبد الحق، والأختين نفيسة والبتول، فقد كانوا جميعا يحسنون اللغة
الفرنسية باستثناء الأختين، وكان أخوه ال*********ر محاميا وناشرا صحفيا
في صحيفة "صدى الأهالي" L'Echo Indigéne ما
بين 1933 – 1934 م. كما تتلمذ الأستاذ عبد الحق على يد أخيه الشيخ عبد
الحميد بالجامع الأخضر وحصل على الشهادة الأهلية في شهر جوان سنة 1940 م
على يد الشيخ مبارك الميلي بعد وفاة الشيخ بن باديس بحوالي شهرين.
ومن
أسلاف عبد الحميد المتأخرين جده لأبيه : الشيخ "المكي بن باديس" الذي كان
قاضيا مشهورا بمدينة قسنطينة وعضوا في المجلس العام وفي اللجنة البلدية،
وقد احتل مقاما محترما لدى السكان بعد المساعدات المالية التي قدمها لهم
خاصة أثناء المجاعة التي حلت بالبلاد فيما بين 1862 – 1868 م ودعي إلى
الاستشارة في الجزائر وباريس، وقد تقلد وساما من يد "نابليون الثالث"
(تقلد رئاسة فرنسا من 1848-1852 م وإمبراطور من 1852-1870 م)، وعمه "حميدة
بن باديس" النائب الشهير عن مدينة قسنطينة أواخر القرن التاسع عشر الذي
اشترك مع ثلاثة من زملائه النواب في عام 1891 م في كتابة عريضة بأنواع
المظالم والاضطهادات التي أصبح يعانيها الشعب الجزائري في أواخر القرن
التاسع عشر الميلاد من الإدارة الاستعمارية والمستوطنين الأوروبيين الذي
استحوذوا على الأراضي الخصبة من الجزائريين وتركوهم للفقر والجوع وقاموا
بتقديمها إلى أحد أعضاء مجلس الشيوخ الفرنسي الذي حضر إلى الجزائر من أجل
البحث وتقصي الأحوال فيها كي يقدمها بدوره إلى الحكومة الفرنسية وأعضاء
البرلمان الفرنسي في باريس وذلك بتاريخ 10 أفريل سنة 1891 أي بعد ولادة
عبد الحميد بن باديس بحوالي ثلاثة سنوات فقط.
أما
من قبلهم من الأسلاف الذين تنتمي إليهم الأسرة الباديسية فكان منهم
العلماء والأمراء والسلاطين، ويكفي أن نشير إلى أنهم ينتمون إلى أسرة
عريقة في النسب كما يقول مؤلفا كتاب أعيان المغاربة المستشرقان Marthe et Edmond Gouvion والمنشور
بمطبعة فوناتانا في الجزائر 1920, بأن ابن باديس ينتمي إلى بيت عريق في
العلم والسؤدد ينتهي نسبه في سلسلة كعمود الصبح إلى بني باديس الذين جدهم
الأعلى هو مناد بن مكنس الذي ظهرت علامات شرفه وسيطرته في وسط قبيلته في
حدود القرن الرابع الهجري, وأصل هذه القبيلة كما يقول المستشرقان من
ملكانة أو تلكانة وهي فرع من أمجاد القبيلة الصنهاجية العظيمة "البربرية"
المشهورة في الجزائر والمغرب الإسلامي. ومن رجالات هذه الأسرة المشهورين
في التاريخ الذين كان الشيخ عبد الحميد بن باديس يفتخر بهم كثيرا "المعز
لدين الله بن باديس" (حكم: 406-454 هـ/1016-1062 م) الذي قاوم البدعة
ودحرها، ونصر السنة وأظهرها، وأعلن مذهب أهل السنة والجماعة مذهبًا
للدولة، مؤسس الدولة الصنهاجية وابن الأمير "باديس بن منصور" والى إفريقيا
والمغرب الأوسط (حكم: 373-386 هـ/984-996 م) سليل الأمير "بلكين بن زيري
بن مناد المكنى بأبي الفتوح والملقب سيف العزيز بالله الذي تولى الإمارة
(361-373 هـ/971-984 م) إبان حكم الفاطمين.
وفي
العهد العثماني برزت عدة شخصيات من بينها قاضي قسنطينة الشهير أبو العباس
حميدة بن باديس (توفى سنة 969 هـ/1561 م) قال عنه شيخ الإسلام عبد الكريم
الفكون : "هو من بيتات قسنطينة وأشرافها وممن له الريّاسة والقضاء
والإمامة بجامع قصبتها، وخَلَفُ سلف صالحين علماء حازوا قصب السبق في
الدراية والمعرفة والولاية، وناهيك بهم من دار صلاح وعلم وعمل". وأبو
زكرياء يحيى بن باديس بن الفقيه القاضي أو العباس "كان حييا ذا خلق حسن،
كثير التواضع، سالم الصدر من نفاق أهل عصره، كثير القراءة لدلائل الخيرات
ذا تلاوة لكتاب الله".
وأبو
الحسن علي بن باديس الذي اشتهر في مجال الأدب الصوفي بقسنطينة إبان القرن
العاشر الهجري، السادس عشر الميلادي وهو صاحب القصيدة السينية التي نظمها
في الشيخ "عبد القادر الجيلاني" مطلعها :
والشيخعبد الحميد بن محمد المصطفى بن المكي بن محمد كحول بن الحاج علي النوري بن
محمد بن محمد بن عبد الرحمان بن بركات بن عبد الرحمان بن باديس الصنهاجي.
ولد بمدينة قسنطينة يوم الأربعاء 11 ربيع الثاني 1307 هـ الموافق لـ 4 من
ديسمبر 1889 م على الساعة الرابعة بعد الظهر، وسجل يوم الخميس 12 ربيع
الثاني 1307 هـ الموافق لـ 5 ديسمبر 1889 م في سجلات الحالة المدنية التي
أصبحت منظمة وفي أرقى صورة بالنسبة لذلك العهد كون الفرنسيين أتموا ضبطها
سنة 1886 م.
كان
عبد الحميد الابن الأكبر لوالديه، فأمه هي : السيدة زهيرة بنت محمد بن عبد
الجليل بن جلول من أسرة مشهور بقسنطينة لمدة أربعة قرون على الأقل، وعائلة
"ابن جلول من قبيلة "بني معاف" المشهورة في جبال الأوراس، انتقل أحد
أفرادها إلى قسنطينة في عهد الأتراك العثمانيين وهناك تزوج أميرة تركية هي
جدة الأسرة (ابن جلول) ولنسبها العريق تزوجها والده محمد بن مصطفى بن
باديس (متوفى 1951 م) الذي شغل منصب مندوبا ماليا وعضوا في المجلس الأعلى
وباش آغا شرفيا، ومستشارا بلديا بمدينة قسنطينة ووشحت فرنسا صدره بميدالية
Chevalier de la légion la légion d’honneur،
وقد احتل مكانة مرموقة بين جماعة الأشراف وكان ذوي الفضل والخلق الحميد
ومن حفظة القرآن الكريم، ويعود إليه الفضل في إنقاذ سكان منطقة واد
الزناتي من الإبادة الجماعية سنة 1945 م على إثر حوادث 8 ماي المشهورة،
وقد اشتغل بالإضافة إلى ذلك بالفلاحة والتجارة، وأثرى فيهما.
أما
اخوته الستة : ال*********ر المدعو المولود، العربي، سليم، عبد المليك،
محمود وعبد الحق، والأختين نفيسة والبتول، فقد كانوا جميعا يحسنون اللغة
الفرنسية باستثناء الأختين، وكان أخوه ال*********ر محاميا وناشرا صحفيا
في صحيفة "صدى الأهالي" L'Echo Indigéne ما
بين 1933 – 1934 م. كما تتلمذ الأستاذ عبد الحق على يد أخيه الشيخ عبد
الحميد بالجامع الأخضر وحصل على الشهادة الأهلية في شهر جوان سنة 1940 م
على يد الشيخ مبارك الميلي بعد وفاة الشيخ بن باديس بحوالي شهرين.
ومن
أسلاف عبد الحميد المتأخرين جده لأبيه : الشيخ "المكي بن باديس" الذي كان
قاضيا مشهورا بمدينة قسنطينة وعضوا في المجلس العام وفي اللجنة البلدية،
وقد احتل مقاما محترما لدى السكان بعد المساعدات المالية التي قدمها لهم
خاصة أثناء المجاعة التي حلت بالبلاد فيما بين 1862 – 1868 م ودعي إلى
الاستشارة في الجزائر وباريس، وقد تقلد وساما من يد "نابليون الثالث"
(تقلد رئاسة فرنسا من 1848-1852 م وإمبراطور من 1852-1870 م)، وعمه "حميدة
بن باديس" النائب الشهير عن مدينة قسنطينة أواخر القرن التاسع عشر الذي
اشترك مع ثلاثة من زملائه النواب في عام 1891 م في كتابة عريضة بأنواع
المظالم والاضطهادات التي أصبح يعانيها الشعب الجزائري في أواخر القرن
التاسع عشر الميلاد من الإدارة الاستعمارية والمستوطنين الأوروبيين الذي
استحوذوا على الأراضي الخصبة من الجزائريين وتركوهم للفقر والجوع وقاموا
بتقديمها إلى أحد أعضاء مجلس الشيوخ الفرنسي الذي حضر إلى الجزائر من أجل
البحث وتقصي الأحوال فيها كي يقدمها بدوره إلى الحكومة الفرنسية وأعضاء
البرلمان الفرنسي في باريس وذلك بتاريخ 10 أفريل سنة 1891 أي بعد ولادة
عبد الحميد بن باديس بحوالي ثلاثة سنوات فقط.
أما
من قبلهم من الأسلاف الذين تنتمي إليهم الأسرة الباديسية فكان منهم
العلماء والأمراء والسلاطين، ويكفي أن نشير إلى أنهم ينتمون إلى أسرة
عريقة في النسب كما يقول مؤلفا كتاب أعيان المغاربة المستشرقان Marthe et Edmond Gouvion والمنشور
بمطبعة فوناتانا في الجزائر 1920, بأن ابن باديس ينتمي إلى بيت عريق في
العلم والسؤدد ينتهي نسبه في سلسلة كعمود الصبح إلى بني باديس الذين جدهم
الأعلى هو مناد بن مكنس الذي ظهرت علامات شرفه وسيطرته في وسط قبيلته في
حدود القرن الرابع الهجري, وأصل هذه القبيلة كما يقول المستشرقان من
ملكانة أو تلكانة وهي فرع من أمجاد القبيلة الصنهاجية العظيمة "البربرية"
المشهورة في الجزائر والمغرب الإسلامي. ومن رجالات هذه الأسرة المشهورين
في التاريخ الذين كان الشيخ عبد الحميد بن باديس يفتخر بهم كثيرا "المعز
لدين الله بن باديس" (حكم: 406-454 هـ/1016-1062 م) الذي قاوم البدعة
ودحرها، ونصر السنة وأظهرها، وأعلن مذهب أهل السنة والجماعة مذهبًا
للدولة، مؤسس الدولة الصنهاجية وابن الأمير "باديس بن منصور" والى إفريقيا
والمغرب الأوسط (حكم: 373-386 هـ/984-996 م) سليل الأمير "بلكين بن زيري
بن مناد المكنى بأبي الفتوح والملقب سيف العزيز بالله الذي تولى الإمارة
(361-373 هـ/971-984 م) إبان حكم الفاطمين.
وفي
العهد العثماني برزت عدة شخصيات من بينها قاضي قسنطينة الشهير أبو العباس
حميدة بن باديس (توفى سنة 969 هـ/1561 م) قال عنه شيخ الإسلام عبد الكريم
الفكون : "هو من بيتات قسنطينة وأشرافها وممن له الريّاسة والقضاء
والإمامة بجامع قصبتها، وخَلَفُ سلف صالحين علماء حازوا قصب السبق في
الدراية والمعرفة والولاية، وناهيك بهم من دار صلاح وعلم وعمل". وأبو
زكرياء يحيى بن باديس بن الفقيه القاضي أو العباس "كان حييا ذا خلق حسن،
كثير التواضع، سالم الصدر من نفاق أهل عصره، كثير القراءة لدلائل الخيرات
ذا تلاوة لكتاب الله".
وأبو
الحسن علي بن باديس الذي اشتهر في مجال الأدب الصوفي بقسنطينة إبان القرن
العاشر الهجري، السادس عشر الميلادي وهو صاحب القصيدة السينية التي نظمها
في الشيخ "عبد القادر الجيلاني" مطلعها :
[center]ألا سر إلى بغداد فهي مني النفس وحدق لهمت عمن ثوى باطن الرمس
المفتي بركات بن باديس دفين مسجد سيدي قموش بقسنطينة في الفترة نفسها.
وأبو عبد الله محمد بن باديس قال عنه الشيخ الفكون : "كان يقرأ معنا على
الشيخ التواتي (محمد التواتي أصله من المغرب كانت شهرته بقسنطينة وبها
انتشر علمه، كانت له بالنحو دراية ومعرفة حتى لقب بسيبويه زمانه، وله
معرفة تامة بعلم القراءات) آخر أمره، وبعد ارتحاله استقل بالقراءة عليّا
وهو من موثقي البلدة وممن يشار إليه". والشيخ أحمد بن باديس الذي كان
إماما بقسنطينة أيام "الشيخ عبد الكريم الفكون" خلال القرن الحادي عشر
الهجري، السابع عشر الميلادي.
من
هذه الأسرة العريقة انحدر عبد الحميد بن باديس، وكان والده بارًا به يحبه
حبا جما ويعطف عليه ويتوسم النباهة وهو الذي سهر على تربيته وتوجيهه
التوجيه الذي يتلاءم مع فطرته ومع تطلعات العائلة، كما كان الابن من جهته
يجل آباه ويقدره و يبره. والحق أن "عبد الحميد" يعترف هو نفسه في آخر
حياته بفضل والده عليه منذ أن بصر النور وذلك في حفل ختم تفسير القرآن سنة
1938 م، أمام حشد كبير من المدعوين ثم نشر في مجلة "الشهاب"، فيقول : "إن
الفضل يرجع أولاً إلى والدي الذي ربّاني تربية صالحة ووجهني وجهة صالحة،
ورضي لي العلم طريقة أتبعها ومشرباً أرده، وقاتني وأعاشني وبراني كالسهم
وحماني من المكاره صغيراً وكبيراً، وكفاني كلف الحياة... فالأشكرنه بلسانه
ولسانكم ما وسعني الشكر. ولأكلُ ما عجزت عنه من ذلك للَّه الذي لا يضيع
أجر المحسنين».
الوسط الثقافي والفكري والدينية الذي تربى وترعرع فيه الشيخ ابن باديس
أولاً: الحالة الثقافية والفكرية في الجزائر قبل الاحتلال:
إن
انتشار المدارس والمعاهد والزوايا في مختلف نواحي الجزائر خلال تلك
الفترة، دليل على أن الحياة الفكرية والثقافية كانت مزدهرة بها.
وقد
اشتهرت مدن قسنطينة والجزائر وتلمسان وبلاد ميزاب في الجنوب بكثرة المراكز
التعليمية، وكان يقوم عليها أساتذة وعلماء مشهود لهم بعلو المكانة ورسوخ
القدم في العلم والمعرفة، مثل الشيخ (الثميني) في الجنوب، والشيخ
(الداوودي) في تلسمان، والشيخ (ابن الحفّاف) بالعاصمة، والشيخ (ابن
الطبّال) بقسنطينة، والشيخ (محمد القشطولي) في بلاد القبائل، وغيرهم كثير
ممن تفرّغوا للتدريس ونشر العلم.
وكان
من نتائج هذا الانتشار الواسع لمراكز التربية والتعليم، أن أصبحت نسبة
المتعلمين في الجزائر تفوق نسبة المتعلمين في فرنسا، (فقد كتب الجنرال
فالز سنة 1834م بأن كل العرب (الجزائريين) تقريبًا يعرفون القراءة
والكتابة، حيث إن هناك مدرستين في كل قرية... أما الأستاذ ديميري، الذي
درس طويلاً الحياة الجزائرية في القرن التاسع عشر، فقد أشار إلى أنه قد
كان في قسنطينة وحدها قبل الاحتلال خمسة وثلاثون مسجدًا تستعمل كمراكز
للتعليم، كما أن هناك سبع مدارس ابتدائية وثانوية يحضرها بين ستمائة
وتسعمائة طالب، ويدرّس فيها أساتذة محترمون لهم أجور عالية).
وقد أحصيت المدارس في الجزائر سنة 1830م، بأكثر من ألفي مدرسة ما بين ابتدائية وثانوية وعالية.
وكتب
الرحالة الألماني (فيلهلم شيمبرا) حين زار الجزائر في شهر ديسمبر 1831م،
يقول: (لقد بحثتُ قصدًا عن عربي واحد في الجزائر يجهل القراءة والكتابة،
غير أني لم أعثر عليه، في حين أني وجدت ذلك في بلدان جنوب أوروبا، فقلما
يصادف المرء هناك من يستطيع القراءة من بين أفراد الشعب).. وخير المثال ما
شهد به الأعداء.
وقد برز في هذه الفترة علماء في كثير من العلوم
النقلية والعقلية، زخرت بمؤلفاتهم المكتبات العامة والخاصة في الجزائر،
غير أن يد الاستعمار الغاشم عبثت بها سلبًا وحرقًا، في همجية لم يشهد لها
التاريخ المعاصر مثيلاً.
يقول أحد الغربيين واصفًا ذلك: (إن الفرنسيين
عندما فتحوا مدينة قسنطينة في شمالي أفريقيا، أحرقوا كل الكتب والمخطوطات
التي وقعت في أيديهم، كأنهم من صميم الهمج).
يظهر
مما ذكرنا أنه كان للجزائر مكانها المرموق بين أقطار المغرب في خدمة علوم
العربية والإسلام، كما قدّمت للميدان أعلامًا من رجالها، حملوا الأمانة،
وكانت تُشدُّ إليهم الرحال في طلب العلم.
ثانيًا: الحالة الثقافية والفكرية والدينية أثناء الاحتلال:
يمكن تقسيم الفترة الممتدة من دخول الاستعمار إلى ظهور دعوة الشيخ عبد الحميد بن باديس إلى مرحلتين:
* المرحلة الأولى (1830-1900م):
لم
تقتصر اعتداءات الاحتلال الفرنسي للجزائر على الجوانب السياسية والعسكرية
والاقتصادية فحسب، بل عمد إلى تدمير معالم الثقافة والفكر فيها، وقد ظهر
حقده الصليبي في إصراره على تحطيم مقومات الأمة، وفي مقدمتها الدين
الإسلامي واللغة العربية، معتمدًا في ذلك على ما يلي :
1 - مصادرة الأوقاف الإسلامية:
كان
التعليم في الجزائر يعتمد اعتمادًا كبيرًا على مردود الأوقاف الإسلامية في
تأدية رسالته، وكانت هذه الأملاك قد وقفها أصحابها للخدمات الخيرية، وخاصة
المشاريع التربوية كالمدارس والمساجد والزوايا. وكان الاستعمار يدرك بأن
التعليم ليس أداة تجديد خُلقي فحسب، بل هو أداة سلطة وسلطان ووسيلة نفوذ
وسيطرة، وأنه لا بقاء له إلا بالسيطرة علىه، فوضع يده على الأوقاف، قاطعًا
بذلك شرايين الحياة الثقافية.
جاء في تقرير اللجنة الاستطلاعية التي
بعث بها ملك فرنسا إلى الجزائر يوم 7/7/1833م ما يلي: (ضممنا إلى أملاك
الدولة سائر العقارات التي كانت من أملاك الأوقاف، واستولينا على أملاك
طبقة من السكان، كنا تعهدنا برعايتها وحمايتها... لقد انتهكنا حرمات
المعاهد الدينيــة ونبشنــا القبــور، واقتحمنــا المنـازل التي لهـا
حُرْمَتهـا عنـد المسلمين...).
2- التضييق على التعليم العربي :
أدرك
المستعمر منذ وطئت أقدامه أرض الجزائر، خطورة الرسالة التي تؤديها المساجد
والكتاتيب والزوايا، في المحافظة على شخصية الأمة. فلم تكن هذه المراكز
قاصرة على أداء الشعائر التعبدية فحسب، بل كانت أيضًا محاضر للتربية
والتعليم وإعداد الرجال الصالحين المصلحين، لذلك صبّت فرنسا غضبها عليها
بشدة، فعمدت إلى إخماد جذوة العلوم والمعارف تحت أنقاض المساجد والكتاتيب
والزوايا، التي دُمّرت فلم تبق منها سوى جمرات ضئيلة في بعض الكتاتيب،
دفعتها العقيدة الدينية، فحافظت على لغة القرآن ومبادئ الدين الحنيف في
تعليم بسيط وأساليب بدائية.
فقد حطم الفرنسيون في 18/12/1832م جامع كتشاوه، وحوّلوه بعد تشويه شكله وتغيير وضعيته إلى كاتدرائية، أُطلق عليها اسم القديس فيليب Cathedrale SaintPhilipe
، والشيء نفسه وقع لمسجد حسن باي بقسنطينة غداة سقوطها بأيديهم(2) سنة
1837م.. هكذا اختفت كثير من الكتاتيب القرآنية ومدارس التعليم الإسلامي،
التي كانت مزدهرة قبل الاحتلال الفرنسي. كما طالت يد الحقد الصليبي
المكتبات العامة والخاصة، حيث أحــرق جنــود الجنــرال دوق دومـال Dauk Daumale
مكتبــة الأميــر عبد القادر الجزائري بمدينة تاقدامت في ربيع الثاني
1259هـ، 10 مايو 1843م، وكان فيها من نوادر المخطوطات ونفائس المؤلفات ما
لا يقدر بثمن، ونفس المصير واجهته معظم المكتبات الأخرى. إن هذه الحرب
الشعواء التي شنها الاستعمار على الدين الإسلامي واللغة العربية، جعلت
التعليم في الجزائر يصل إلى أدنى مستوى له، فحتى سنة 1901 -أي بعد حوالي
70 سنة من الاحتلال- كانت نسبة المتعلمين من الأهالي لا تتعدى 3.8%، فكادت
الجزائر أن تتجه نحو الفرنسة والتغريب أكثر من اتجاهها نحو العروبة
والإسلام. وقد تأثرت الحياة الفكرية والدينية في هذه الفترة ببعض العوامل
الأخرى، نذكر منها ما يلي :
أ-
الطرق الصوفية : من الإنصاف أن نذكر هنا الدور الإيجابي الذي قامت به بعض
الطرق الصوفية منذ بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر، فقد ساهمت بعض زواياها
في نشر الثقافة العربية الإسلامية، كما قام كثير من رجالاتها بالتصدي
للاستعمار والاستبسال في محاربته. فقد كان الأمير عبد القادر الجزائري
راسخ القدم في التصوف، وكان الشيخ الحداد -أحد قادة ثورة القبائل الكبرى
عام 1871م- قد انتهت إليه مشيخة الطريقة الرحمانية في وقته، إلا أن كثيرًا
من الطرق قد انحرفت في ما بعد عن الخط العام الذي رسمه مؤسسوها الأوائل،
فكثرت عندها البدع والضلالات والخرافات، وتقديس القبور والطواف حولها،
والنذر لها، والذبح عندها، وغير ذلك من أعمال الجاهلية الأولى. كما أنه
كانت لبعض رجالاتها مواقف متخاذلة تجاه الاستعمار، حيث سيطرت هذه الطرق
على عقول أتباعها ومريديها، ونشرت بينهم التواكل والكسل، وثبّطت هممهم في
الاستعداد للكفاح من أجل طرد المحتل الغاصب، بدعوى أن وجود الاحتلال في
الجزائر هو من باب القضاء والقدر، الذي ينبغي التسليم به، والصبر عليه،
وأن طاعته هي طاعة لولي الأمر. بهذه الروح المتخاذلة والتفكير المنحرف،
كانت بعض الطرق سببًا في إطالة ليل الاستعمار المظلم في البلاد من جهة،
وتفرق صفوف الأمة وضلالها في الدين والدنيا من جهة أخرى.
ب- انتشار
الجهل والأمية : لقد أدّت الثورات المتتالية التي خاضها الشعب ضد الاحتلال
الفرنسي الغاشم، إلى فقدان الأمة لزهرة علمائها في ميدان الجهاد. كما أن
كثيرًا من المستنيرين من حملة الثقافة العربية الإسلامية هاجروا إلى
المشرق العربي، وإلى البلاد الإسلامية الأخرى، يتحيّنون الفرص للرجوع إلى
الوطن وتطهيره من سيطرة الفرنسيين، كل ذلك ساهم في انتشار الجهل وتفشي
الأمية بين أفراد الأمة، مما أثّر سلبًا على الحياة الفكرية في تلك الفترة.
منقو
[/center]إن
انتشار المدارس والمعاهد والزوايا في مختلف نواحي الجزائر خلال تلك
الفترة، دليل على أن الحياة الفكرية والثقافية كانت مزدهرة بها.
وقد
اشتهرت مدن قسنطينة والجزائر وتلمسان وبلاد ميزاب في الجنوب بكثرة المراكز
التعليمية، وكان يقوم عليها أساتذة وعلماء مشهود لهم بعلو المكانة ورسوخ
القدم في العلم والمعرفة، مثل الشيخ (الثميني) في الجنوب، والشيخ
(الداوودي) في تلسمان، والشيخ (ابن الحفّاف) بالعاصمة، والشيخ (ابن
الطبّال) بقسنطينة، والشيخ (محمد القشطولي) في بلاد القبائل، وغيرهم كثير
ممن تفرّغوا للتدريس ونشر العلم.
وكان
من نتائج هذا الانتشار الواسع لمراكز التربية والتعليم، أن أصبحت نسبة
المتعلمين في الجزائر تفوق نسبة المتعلمين في فرنسا، (فقد كتب الجنرال
فالز سنة 1834م بأن كل العرب (الجزائريين) تقريبًا يعرفون القراءة
والكتابة، حيث إن هناك مدرستين في كل قرية... أما الأستاذ ديميري، الذي
درس طويلاً الحياة الجزائرية في القرن التاسع عشر، فقد أشار إلى أنه قد
كان في قسنطينة وحدها قبل الاحتلال خمسة وثلاثون مسجدًا تستعمل كمراكز
للتعليم، كما أن هناك سبع مدارس ابتدائية وثانوية يحضرها بين ستمائة
وتسعمائة طالب، ويدرّس فيها أساتذة محترمون لهم أجور عالية).
وقد أحصيت المدارس في الجزائر سنة 1830م، بأكثر من ألفي مدرسة ما بين ابتدائية وثانوية وعالية.
وكتب
الرحالة الألماني (فيلهلم شيمبرا) حين زار الجزائر في شهر ديسمبر 1831م،
يقول: (لقد بحثتُ قصدًا عن عربي واحد في الجزائر يجهل القراءة والكتابة،
غير أني لم أعثر عليه، في حين أني وجدت ذلك في بلدان جنوب أوروبا، فقلما
يصادف المرء هناك من يستطيع القراءة من بين أفراد الشعب).. وخير المثال ما
شهد به الأعداء.
وقد برز في هذه الفترة علماء في كثير من العلوم
النقلية والعقلية، زخرت بمؤلفاتهم المكتبات العامة والخاصة في الجزائر،
غير أن يد الاستعمار الغاشم عبثت بها سلبًا وحرقًا، في همجية لم يشهد لها
التاريخ المعاصر مثيلاً.
يقول أحد الغربيين واصفًا ذلك: (إن الفرنسيين
عندما فتحوا مدينة قسنطينة في شمالي أفريقيا، أحرقوا كل الكتب والمخطوطات
التي وقعت في أيديهم، كأنهم من صميم الهمج).
يظهر
مما ذكرنا أنه كان للجزائر مكانها المرموق بين أقطار المغرب في خدمة علوم
العربية والإسلام، كما قدّمت للميدان أعلامًا من رجالها، حملوا الأمانة،
وكانت تُشدُّ إليهم الرحال في طلب العلم.
ثانيًا: الحالة الثقافية والفكرية والدينية أثناء الاحتلال:
يمكن تقسيم الفترة الممتدة من دخول الاستعمار إلى ظهور دعوة الشيخ عبد الحميد بن باديس إلى مرحلتين:
* المرحلة الأولى (1830-1900م):
لم
تقتصر اعتداءات الاحتلال الفرنسي للجزائر على الجوانب السياسية والعسكرية
والاقتصادية فحسب، بل عمد إلى تدمير معالم الثقافة والفكر فيها، وقد ظهر
حقده الصليبي في إصراره على تحطيم مقومات الأمة، وفي مقدمتها الدين
الإسلامي واللغة العربية، معتمدًا في ذلك على ما يلي :
1 - مصادرة الأوقاف الإسلامية:
كان
التعليم في الجزائر يعتمد اعتمادًا كبيرًا على مردود الأوقاف الإسلامية في
تأدية رسالته، وكانت هذه الأملاك قد وقفها أصحابها للخدمات الخيرية، وخاصة
المشاريع التربوية كالمدارس والمساجد والزوايا. وكان الاستعمار يدرك بأن
التعليم ليس أداة تجديد خُلقي فحسب، بل هو أداة سلطة وسلطان ووسيلة نفوذ
وسيطرة، وأنه لا بقاء له إلا بالسيطرة علىه، فوضع يده على الأوقاف، قاطعًا
بذلك شرايين الحياة الثقافية.
جاء في تقرير اللجنة الاستطلاعية التي
بعث بها ملك فرنسا إلى الجزائر يوم 7/7/1833م ما يلي: (ضممنا إلى أملاك
الدولة سائر العقارات التي كانت من أملاك الأوقاف، واستولينا على أملاك
طبقة من السكان، كنا تعهدنا برعايتها وحمايتها... لقد انتهكنا حرمات
المعاهد الدينيــة ونبشنــا القبــور، واقتحمنــا المنـازل التي لهـا
حُرْمَتهـا عنـد المسلمين...).
2- التضييق على التعليم العربي :
أدرك
المستعمر منذ وطئت أقدامه أرض الجزائر، خطورة الرسالة التي تؤديها المساجد
والكتاتيب والزوايا، في المحافظة على شخصية الأمة. فلم تكن هذه المراكز
قاصرة على أداء الشعائر التعبدية فحسب، بل كانت أيضًا محاضر للتربية
والتعليم وإعداد الرجال الصالحين المصلحين، لذلك صبّت فرنسا غضبها عليها
بشدة، فعمدت إلى إخماد جذوة العلوم والمعارف تحت أنقاض المساجد والكتاتيب
والزوايا، التي دُمّرت فلم تبق منها سوى جمرات ضئيلة في بعض الكتاتيب،
دفعتها العقيدة الدينية، فحافظت على لغة القرآن ومبادئ الدين الحنيف في
تعليم بسيط وأساليب بدائية.
فقد حطم الفرنسيون في 18/12/1832م جامع كتشاوه، وحوّلوه بعد تشويه شكله وتغيير وضعيته إلى كاتدرائية، أُطلق عليها اسم القديس فيليب Cathedrale SaintPhilipe
، والشيء نفسه وقع لمسجد حسن باي بقسنطينة غداة سقوطها بأيديهم(2) سنة
1837م.. هكذا اختفت كثير من الكتاتيب القرآنية ومدارس التعليم الإسلامي،
التي كانت مزدهرة قبل الاحتلال الفرنسي. كما طالت يد الحقد الصليبي
المكتبات العامة والخاصة، حيث أحــرق جنــود الجنــرال دوق دومـال Dauk Daumale
مكتبــة الأميــر عبد القادر الجزائري بمدينة تاقدامت في ربيع الثاني
1259هـ، 10 مايو 1843م، وكان فيها من نوادر المخطوطات ونفائس المؤلفات ما
لا يقدر بثمن، ونفس المصير واجهته معظم المكتبات الأخرى. إن هذه الحرب
الشعواء التي شنها الاستعمار على الدين الإسلامي واللغة العربية، جعلت
التعليم في الجزائر يصل إلى أدنى مستوى له، فحتى سنة 1901 -أي بعد حوالي
70 سنة من الاحتلال- كانت نسبة المتعلمين من الأهالي لا تتعدى 3.8%، فكادت
الجزائر أن تتجه نحو الفرنسة والتغريب أكثر من اتجاهها نحو العروبة
والإسلام. وقد تأثرت الحياة الفكرية والدينية في هذه الفترة ببعض العوامل
الأخرى، نذكر منها ما يلي :
أ-
الطرق الصوفية : من الإنصاف أن نذكر هنا الدور الإيجابي الذي قامت به بعض
الطرق الصوفية منذ بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر، فقد ساهمت بعض زواياها
في نشر الثقافة العربية الإسلامية، كما قام كثير من رجالاتها بالتصدي
للاستعمار والاستبسال في محاربته. فقد كان الأمير عبد القادر الجزائري
راسخ القدم في التصوف، وكان الشيخ الحداد -أحد قادة ثورة القبائل الكبرى
عام 1871م- قد انتهت إليه مشيخة الطريقة الرحمانية في وقته، إلا أن كثيرًا
من الطرق قد انحرفت في ما بعد عن الخط العام الذي رسمه مؤسسوها الأوائل،
فكثرت عندها البدع والضلالات والخرافات، وتقديس القبور والطواف حولها،
والنذر لها، والذبح عندها، وغير ذلك من أعمال الجاهلية الأولى. كما أنه
كانت لبعض رجالاتها مواقف متخاذلة تجاه الاستعمار، حيث سيطرت هذه الطرق
على عقول أتباعها ومريديها، ونشرت بينهم التواكل والكسل، وثبّطت هممهم في
الاستعداد للكفاح من أجل طرد المحتل الغاصب، بدعوى أن وجود الاحتلال في
الجزائر هو من باب القضاء والقدر، الذي ينبغي التسليم به، والصبر عليه،
وأن طاعته هي طاعة لولي الأمر. بهذه الروح المتخاذلة والتفكير المنحرف،
كانت بعض الطرق سببًا في إطالة ليل الاستعمار المظلم في البلاد من جهة،
وتفرق صفوف الأمة وضلالها في الدين والدنيا من جهة أخرى.
ب- انتشار
الجهل والأمية : لقد أدّت الثورات المتتالية التي خاضها الشعب ضد الاحتلال
الفرنسي الغاشم، إلى فقدان الأمة لزهرة علمائها في ميدان الجهاد. كما أن
كثيرًا من المستنيرين من حملة الثقافة العربية الإسلامية هاجروا إلى
المشرق العربي، وإلى البلاد الإسلامية الأخرى، يتحيّنون الفرص للرجوع إلى
الوطن وتطهيره من سيطرة الفرنسيين، كل ذلك ساهم في انتشار الجهل وتفشي
الأمية بين أفراد الأمة، مما أثّر سلبًا على الحياة الفكرية في تلك الفترة.
منقو