أهمية النصيحة في الله .
للنصيحة شأن عظيم في حياة الفرد
والأمة على حد سواء , فهي أساس بناء الأمة
, وهي السياج الواقي بإذن الله من الفرقة والتنازع
والتحريش بين المسلمين ، هذا التحريش الذي رضيه الشيطان بعد أن يئس أن يعبده المصلون في
جزيرة العرب ,كما قال
عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم : ( إن
الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب , ولكن
في التحريش بينهم ) . لقد رضي بالتحريش لأنه بداية طبيعية للعداء والتفرق والتنازع , المؤدي إلى الاقتتال وذهاب الريح .
وأعظم حديث جامع يبين مفهوم النصيحة الشرعية وحدودها ,
الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن تميم الدَّاري أن النبي سلم قال : (
الدين النصيحة ثلاثا ,
قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله
ولأئمة المسلمين وعامَّتهم
) .
فهذا الحديث له شأن عظيم , فهو ينص على أن عماد الدين وقوامه
بالنصيحة , فبوجودها
يبقى الدين قائما في الأمة , وبعدمها يدخل النقص على الأمة في جميع شؤون حياتها.
وقد كان منهج أنبياء الله ورسله مع أممهم مبنياً على
النصح لهم والشفقة عليهم ،قال نوح عليه السلام مخاطبا قومه : { أبلغكم رسالات ربي وأنصح
لكم وأعلم من الله ما
لا تعلمون } ( الأعراف 62ا ) . وقال صالح لقومه : {يا
قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون
الناصحين} ( الأعراف 79ا ) ،وقال هود : { أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين } ( الأعراف 68ا
) .
والنصيحة كلمة يعبر بها عن إرادة الخير للمنصوح له , ولا
يمكن أن يعبر عن هذا المعنى بكلمة واحدة تحصرها وتجمع معناها غير هذه الكلمة , وأنواعها خمسة وهي التي ذكرت في الحديث :
الأول : النصيحة لله : وتكون بالاعتراف بوحدانيته وتفرده
بصفات الكمال ونعوت
الجلال , والقيام بعبوديته ظاهراً وباطناً ، والإنابة إليه كل وقت ,مع التوبة والاستغفار الدائم , لأن
العبد لا بد له من التقصير في شيء من الواجبات و التجرؤ على بعض المحرمات , وبالتوبة والاستغفار ينجبر النقص , ويُسَدُّ الخلل.
الثاني : النصيحة لكتاب الله وتكون بحفظه وتدبره ، وتعلم
ألفاظه ومعانيه , والاجتهاد في العمل به في نفسه وتعليمه غيره .
الثالث : النصيحة للرسول سلم : وتكون
بالإيمان به ومحبته ، وتقديمه على النفس والمال والولد ، واتباعه في أصول الدين وفروعه ،
وتقديم قوله
على قول كل أحد , والاهتداء بهديه ، والنصر لدينه وسنته
.
الرابع : النصيحة لأئمة المسلمين وهم الولاة , من الإمام
الأعظم إلى الأمراء
والقضاة وجميع من لهم ولاية عامة أو خاصة , وتكون هذه النصيحة باعتقاد ولايتهم , والسمع والطاعة لهم ،
وحث الناس على ذلك ، وبذل ما يستطاع في إرشادهم للقيام بواجبهم , وما ينفعهم وينفع الناس .
الخامس النصيحة لعامة المسلمين وتكون بمحبة الخير لهم كما
يحب المرء لنفسه , وكراهية الشر لهم كما يكره لنفسه
.
ولابد في النصيحة من ثلاثة أمور
:
أولها : الإخلاص لله تعالى في النصيحة لأنه لب الأعمال ,
ولأن النصيحة من حق المؤمن على المؤمن , فوجب فيها التجرد عن الهوى والأغراض الشخصية والنوايا السيئة التي قد تحبط العمل ,
وتورث الشحناء وفساد ذات البين .
وثانيها : الرفق في النصح ,وإذا خلت النصيحة من الرفق
صارت تعنيفا وتوبيخا لا يقبل ، ومن حرم الرفق فقد حرم الخير كله كما أخبر بذلك نبينا عليه الصلاة والسلام
.
وثالثها : الحِلْم بعد النصح , لأن الناصح قد يواجه من
يتجرأ عليه أو يرد نصيحته , فعليه أن يتحلى بالحلم , ومن مقتضيات الحلم : الستر والحياء
وعدم البذاءة , وترك
الفحش .
وإن من الحكمة والبصيرة في النصيحة معرفة أقدار الناس ,
وإنزالهم منازلهم ، والترفق مع أهل الفضل والسابقة , وتخير وقت النصح المناسب ,
وتخير أسلوب النصح
المتزن البعيد عن الانفعالات , وانتقاء الكلم الطيب والوجه البشوش والصدر الرحب ، فهو أوقع في النفس وأدعى
للقبول وأعظم للأجر عند الله .
فهذه هي حدود النصيحة الشرعية , وخلاف ذلك هو الإرجاف
والتعيير والغش الذي هو من علامات النفاق عياذا بالله , قال على رضي الله عنه : "
المؤمنون نصحة
والمنافقون غششة " ، وقال غيره : " المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويعير"
.
فالنبي سلم فسر النصيحة بهذه الأمور
الخمسة , التي تشمل القيام بحقوق الله ، وحقوق كتابه ، وحقوق رسوله ، وحقوق جميع المسلمين
على اختلاف أحوالهم
وطبقاتهم , فشمل ذلك الدين كله ، ولم يبق منه شيء إلا دخل
في هذا الكلام الجامع المحيط , فكان لزاما على المسلمين
أخذ النصيحة خلقا بينهم , فهي القاطعة لفساد ذات البين والتحريش , والموصلة لمعاني
الأخوة والمحبة
في الله ، وهي العامل الأهم في تماسك الجماعة والأمة ، والله
الموفق.