فى مثل هذا اليوم من كل عام كانت مَدرستنا ــ أنا
وأختى وأخى ــ مدرسة آمون الخاصة، زمالك ــ تقيم حفلا كبيرا: مسرح منصوب فى
حوش المدرسة، وكراسى مرصوصة، يجلس عليها آباؤنا وأمهاتنا ــ أو على الأقل
أمهاتنا ــ وبوفيه عليه باتونساليه وبتيفور وعصائر وبعض الأزهار. ويخرج
البيانو من غرفة الموسيقى متدحرجا على عجلِهِ إلى الفراندة الواسعة التى
تقف عليها فى كل صباح آنتى إنعام، ناظرتنا، (وكنا نقول لها «إنتى» ونقول
للمدرسات «ميس» مع اننا ــ الحمد لله ــ نقول للمدرسين «أستاذ» وليس
«مستر») إنتى إنعام تشرف على طابور الصباح من الفراندة ــ لكنها فى هذا
اليوم تنزل إلى الحوش مع الأهل، تقف معهم، تضايفهم، وتجلس بينهم فى الصف
الأول لتشهد العروض التى قضينا ساعات وساعات فى الأسابيع الماضية نتدرب
عليها: مسرحيات قصيرة، رقصات على أنغام البيانو المتواجد الآن فى الفراندة
تدق عليه ميس زينب، وفى النهاية التتويج الثابت للحفل حين نغنى: عيدك يا
أمى/ أجمل أعيادى/ لولاك يا أمى/ ما كان ميلادى/ قلبك يرعانى/ يا بهجة
القلب/ وليس ينسانى/ فى البعد والقرب.. والنشيد، ككل أناشيدنا، كان من
تأليف وتلحين الشيخ عبيد، وهو الشيخ المعمم الذى يدرس اللغة العربية للقسم
الثانوى بالمدرسة ــ والذى يلازمه دائما الشيخ طلبة، زميله ووكيل المدرسة،
والذى يشهد التلاميذ بأنه أشطر المدرسين، والذى تتراءى على وجهه دائما
ابتسامة صغيرة غامضة يزداد غموضها حين ننشد أغانى الشيخ عبيد. عيدك يا أمى/
أجمل أعيادى/ لولاك يا أمى/ ما كان ميلادى/ قلبك يرعانى.
ونحن، الأطفال، نرى الأمر عاديا جدا: أمهاتنا يجلسن على الكراسى،
يتضاحكن ويتبادلن الأحاديث ويأكلن البتيفور. نبحث عن الأم الخاصة بنا فى
نهاية الحفل لنمشى متقافزين إلى البيت إلى جانبها، سعداء بإطرائها على
أغانينا، رقصاتنا، متحمسين للإجابة على أسئلتها حول أصدقائنا ومدرسينا.
ونحن، المراهقون، نرى الأمر عاديا إلى درجة الملل: أمهاتنا يجلسن على
الكراسى، يتضاحكن ويتبادلن الأحاديث ويأكلن البتيفور. نتحاشى المرواح معهن
كى نتلكأ بعض الوقت مع الرفاق. لم نكن نعلم ــ وكيف لنا أن نعلم؟ ــ أن
أياما وأعواما ستأتى سيبدو فيها هذا المشهد، المتزايد بُعدا ووضوحا، من
المشاهد الأكثر تعبيرا عن السعادة واتزان الأمور فى حياتنا. أرى أم مصطفى
الملاح صامتة مبتسمة، شعرها معقوص إلى الوراء تهرب بعض خصلاته لتُزَيِّن
وجهها فتشبه مريم فخر الدين أو فينوس بوتيتشيللى، وأرى طنط سومة، مامِة
أشرف وسهير، سمراء لامعة العينين متقدة متحركة مقبلة دائما، ثم طنط عقيلة،
مامة عبلة وعزة، أجمل بنات المدرسة، جادة ومنشغلة. وغيرهم، وغيرهم.
لا أذكر من الذى أوصى: أنظر إلى كل شىء وكأنك تراه للمرة الأخيرة. أحاول
هذا أحيانا ولا أستطيعه. حاولته فى سنة أمى الأخيرة. كنت أنظر إليها نائمة
وأقول لنفسى عمدا: يوما ليس ببعيد ستنظرين إليها هكذا ولن تكون نائمة نوما
يفاق منه.
كان عندى دائما هاجس فقدان أمى. أول كابوس أذكره، وكنت ــ ربما ــ فى
السادسة، صوَّرها لى راقدة على دكة حجرية فى حديقة لندنية شديدة البرودة ــ
وكنا وقتها فى لندن حيث كانت هى وأبى يَدْرسان ــ وأنا الطفلة أجلس ملتصقة
بها أرجوها ألا تموت. وكانت تجيبنى مبتسمة بحنان، مشفقة لكن مطمئنة، تقول:
لكننى مضطرة. وكان أن تحقق المشهد فى صيفنا الأخير معا، حيث جلست ملتصقة
بها، أرجوها ــ بصراحة ــ ألا ترحل، وقد استشعرت انسحابها التدريجى خلال
ذلك الصيف، فابتسمَت وسألَت: وإلى متى أظل سيدة عجوز تجلس فى كرسى فى
الركن؟
فقدت أمى ولا أظننى سأشفى أبدا ــ بالرغم من أن فقدان الأم من طبائع الأمور.
أنا التى أخاف إن فتحت فمى أن يمل سامعى عند أول مقطع من أول كلمة ــ
كنت أتحدث إليها بلا حساب؛ هى لن تمل منى، وإن مَلَّت ليست مشكلة. لتتحمل.
لكنها لن تمل. كنت أحادثها من المطارات ــ وبالذات المطارات التى لم أعتدها
أو لا أرتاح لها، حين يكون عالمى مليئا بالأغراب. كنت أحادثها فى لحظات
الاغتراب عن النفس، فتعيد إلىّ نفسى.
سألتها مرة، وكان سؤالا بلاغيا لم أتوقع إجابة عليه ــ سألت: من أين
يمكن أن أرُدّ بعضا مما عملتيه لى؟ وأسارع بالقول بأننى لا أقصد بذكر هذا
السؤال انى كنت ابنة مثالية، فلم أكن. كنت أشد وأتخانق وأنسى وأتناسى
وأتساخف. عادى. السؤال كان فى الحقيقة شبه نظرى. وجاءت إجابتها، ولم أفهمها
إلا بعد أن صرت أما. قالت: ترديه لى فى أولادك؛ هكذا تسير الحياة. فهمت
بعد أن صرت أما. وفهمت أيضا ذلك القول الإنجيلى: إن العطاء هو التلقى.
فغاية ما تطلب الأم هو استقبال أبنائها لعطائها.
فقدت أمى ولا أظننى سأشفى أبدا ــ بالرغم من أن فقدان الأم من طبائع
الأمور. فماذا عن أمهات فقدن أبناءهن؟ ماذا ــ اليوم ــ عن أمهات شهداء
مصر؟ أتستشعرون كم الأسى اليوم فى أجواء بلادنا؟ قلوب الأمهات. «قلبك
يرعانى/ فى البعد والقرب» وقلوب أمهات الشهداء ترعى الأولاد اليوم فى أبعد
البعد. كل أم ترى مشهد آخر مرة رأت فيها ابنها. تراه وتستعيده؛ المرة
الأخيرة، المتكررة. كل أم عطاؤها الآن أن تأتى بحق ابنها، وهديتها الآن أن
نأتيها بحق إبنها. ولو كانت ثورتنا أمسكت بزمام الأمور لكنا فعلنا. سنفعل.
وإلى ذلك الحين، نقبل رءوس الأمهات وأيديهن: أولادكم فدوا أولادنا، وحقهم
عندنا، لن نهدأ ولن نتوقف إلى أن نجيب حقهم، ونحقق حلمهم.