فضل شهر الله المحرم ويوم عاشوراء
محمد حسن يوسف
مقدمة الطبعة الأولى
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ
مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ،
وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ
شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
وبعد، فإنه ينبغي للمسلم أن يكون همه وقصده في هذه
الحياة تحقيق الغاية التي خُلق من أجلها، وهي عبادة الله تعالى،
والفوز برضاه ونعيمه، والنجاة من غضبه وعذابه.
قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَاْلإِنسَ إَِّلا لِيَعْبُدُونِ
( الذاريات: 56 ).
فيبدأ بفعل المأمورات، ويحذر بترك المنهيات.
ثم إنه بعد ذلك يبدأ في البحث على اغتنام
مواسم الطاعات، التي ترفع الدرجات، وتزيد
في الحسنات. ذلك أن لله مواسم للطاعات،
وأوقاتا فضل بعضها على بعض. فمن استطاع أن يغتنم
هذه المواسم، فهو الذي يسعد في دنياه، ويجد ثواب ذلك
في قبره بعد مماته، ثم يفوز بجنة الله عز وجل
ورضوانه في الآخرة.
فهيا نشمر عن الأكمام لاغتنام موسم للطاعة عظيم
قد أقبل علينا، ألا وهو شهر الله المحرم، وذلك بالإكثار
من الصيام وفعل الخيرات فيه، والحرص على اغتنام
اليوم العظيم الذي فيه، وهو يوم عاشوراء.
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم آمين.
وكتبه
محمد حسن يوسف
23 ذو الحجة 1424 هـ
فضل شهر الله المحرم ويوم عاشوراء
أولا:
فضل الإكثار من صيام التطوع في شهر المحرم:
(1)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ سلم :
أَفْضَلُ الصِّيَامِ، بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ.
وَأَفْضَلُ الصََّلاةِ، بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، صََلاةُ اللَّيْلِ.
( صحيح مسلم، 1163(202)) .
فمما يسن صيامه شهر المحرم، وهو الذي يلي
شهر ذي الحجة، وهو الذي جعله الخليفة الراشد
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول شهور السنة،
وصومه أفضل الصيام بعد رمضان.
( الشرح الممتع على زاد المستقنع: (6/468-469) ).
والظاهر أن المراد جميع شهر المحرم.
( مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: (4/467)) .
ولكن حيث ورد أنه سلم
لم يصم شهرا كاملا إلا رمضان، للحديث التالي:
(2) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ سلم يَصُومُ شَهْرًا كُلَّهُ؟ قَالَتْ: مَا عَلِمْتُهُ صَامَ شَهْرًا كُلَّهُ إَِلا رَمَضَانَ، وََلا أَفْطَرَهُ
كُلَّهُ حَتَّى يَصُومَ مِنْهُ، حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ سلم .
( صحيح مسلم، 1156(173)) .
فيُحمل الحديث (1) على الترغيب في الإكثار من الصيام
في شهر المحرم. وقوله سلم :
( أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم )
تصريح بأنه أفضل الشهور للصوم. وأضاف الشهر
إلى الله تعظيما. ( تحفة الأحوذي: (3/164)) .
فإن قلت: قد ثبت إكثار النبي سلم
من الصوم في شعبان, وهذا الحديث يدل على أن أفضل الصيام
بعد صيام رمضان هو صيام المحرم. فكيف أكثر
النبي سلم منه في شعبان دون المحرم؟
ففيه جوابين: أحدهما: لعله إنما علم فضله في آخر حياته,
والثاني:
لعله كان يعرض فيه أعذار, من سفر أو مرض أو غيرهما. ( شرح صحيح مسلم: (4/312) ). وقد ورد في الحض
على صيام التطوع مطلقا:
(3) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه ، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ سلم : مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ
يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ،
إَِلا بَاعَدَ اللَّهُ، بِذَلِكَ الْيَوْمِ، وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا.
( صحيح مسلم، 1153(167) ).
(4) وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه ،
عَنْ النَّبِيِّ سلم ، قَالَ: مَنْ صَامَ يَوْمًا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ، جَعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ خَنْدَقًا،
كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَاْلأرْضِ.
( صحيح / صحيح سنن الترمذي للألباني، 1624 ).
(5) وعَنْه رضي الله عنه أيضا، قَالَ: قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ! مُرْنِي بِعَمَلٍ. قَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ،
فَإِنَّهُ َلا عَدْلَ لَهُ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مُرْنِي بِعَمَلٍ.
قَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ َلا عِدْلَ لَهُ.
( صحيح / صحيح سنن النسائي للألباني، 2222 ).
ثانيا:
فضل صيام يوم عاشوراء:
(6) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: مَا رَأَيْتُ
النَّبِيَّ سلم يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ
عَلَى غَيْرِهِ إَِلا هَذَا الْيَوْمَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ،
يَعْنِي: شَهْرَ رَمَضَانَ.
( صحيح البخاري، 2006 ).
ومعنى " يتحرى " أي يقصد صومه لتحصيل ثوابه والرغبة فيه. ( فتح الباري: (4/292) ).
(7) وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه ،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ سلم :
صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ
الَّتِي قَبْلَهُ. ( صحيح مسلم، 1162(196) ).
(8) وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ:
أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ سلم بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ:
يَوْمُ الْعَاشِرِ. ( صحيح / صحيح سنن الترمذي للألباني، 755 ).
(9) وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ:
قَدِمَ النَّبِيُّ سلم الْمَدِينَةَ، فَرَأَى الْيَهُودَ
تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ. فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ،
هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى.
قَالَ: فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.
( صحيح البخاري، 2004 ) . وقد أخرج أحمد
من وجه آخر عن ابن عباس زيادة في سبب صيام اليهود له، وحاصلها أن السفينة استوت على الجودي فيه، فصامه
نوح وموسى شكرا. ( فتح الباري: (4/291) ).
وفي هذا الحديث دليل على أن التوقيت كان
في الأمم السابقة بالأهلة، وليس بالشهور الإفرنجية.
( الشرح الممتع: (6/471) ).
وهذا الحديث أفاد تعيين الوقت الذي وقع فيه الأمر بصيام عاشوراء، وقد كان أول قدومه المدينة. ولا شك
أن قدومه كان في ربيع الأول، فحينئذ كان الأمر
بذلك في أول السنة الثانية.
( نداء الريان في فقه الصوم وفضل رمضان: (1/499) ).
(10) وعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه ، قَالَ: كَانَ
يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَعُدُّهُ الْيَهُودُ عِيدًا.
قَالَ النَّبِيُّ سلم : فَصُومُوهُ أَنْتُمْ.
( صحيح البخاري، 2005 ) .
وظاهر هذا أن الباعث على الأمر بصومه محبة مخالفة اليهود
حتى يصام ما يفطرون فيه، لأن يوم العيد لا يصام.
( فتح الباري: (4/292) ). وهذا يدل على النهي
عن اتخاذه عيدا. ( لطائف المعارف: (124) ).
ثالثا:
صفة صيام النبي سلم لعاشوراء:
كان للنبي سلم في صيامه لعاشوراء
أربع حالات:
الحالة الأولى:
أنه كان يصومه بمكة ولا يأمر الناس بالصوم.
الحالة الثانية:
أن النبي سلم لما قدم المدينة، ورأى صيام
أهل الكتاب له وتعظيمهم له، وكان يحب موافقتهم
فيما لم يؤمر به، صامه وأمر الناس بصيامه.
وأكد الأمر بصيامه والحث عليه، حتى كانوا يصّومونه أطفالهم. والرأي الراجح أنه كان فرضا وواجبا
في هذه الحالة.
الحالة الثالثة:
لما فُرض صيام شهر رمضان، ترك النبي سلم
أمر الصحابة بصيام عاشوراء وتأكيده فيه.
الحالة الرابعة:
عزم النبي سلم في آخر
عمره على أن لا يصومه مفردا، بل يضم إليه يوما آخر
مخالفة لأهل الكتاب في صيامه. قال ابن حجر:
فلما فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام، أحب مخالفة أهل الكتاب أيضا كما ثبت في الصحيح. فهذا من ذلك،
فوافقهم أولا، وقال: نحن أحق بموسى منكم،
ثم أحب مخالفتهم، فأمر بأن يضاف إليه يوم قبله ...
خلافا لهم. ( فتح الباري: (4/288) ).
( انتهى ملخصا من لطائف المعارف (113-120)؛ ونداء الريان: (1/498-500). ومن شاء الوقوف على أدلة كل حالة فليرجع إليهما ).
رابعا:
استحباب صيام اليوم التاسع مع عاشوراء:
(11) عَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ:
حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ سلم يَوْمَ عَاشُورَاءَ
وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ سلم :
فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ.
قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، حَتَّى تُوُفِّيَ
رَسُولُ اللَّهِ سلم .
( صحيح مسلم، 1134(133) ).
قال الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وآخرون:
يستحب صوم التاسع والعاشر جميعا; لأن النبي سلم صام العاشر, ونوى صيام التاسع ...