ليس الإيمان بالتمني
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﴿يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾[ النساء:1]. ﴿يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون﴾ [آل عمران:102]. ﴿ يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً﴾ [الأحزاب:71].
من الكلمات الخالدة التي تنسب إلى الحسن البصري رحمه الله وهو من سادات التابعين قوله: (ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكنه ما وقر في القلب وصدقه العمل)، نعم ليس الانتساب إلى الإيمان والإسلام مجرد ادعاء، وإنما يتفاوت الناس ويختلفون في العمل والتطبيق والانقياد في الباطن والظاهر لله ورسوله وتنفيذ حكم الله ورسوله في كل شيء في الكبير والصغير والحقير والعظيم، لا يثبت الإيمان ولا يستقر في قلب عبد حتى ينفذ حكم الله ورسوله في الدماء والأعراض والأموال وفي كل شيء.. أما إذا أعرض الإنسان عن حكم الله ورسوله وتنصل منه وتهرب أو تلكأ، فهو دعي في إيمانه كاذب في انتسابه إلى الإسلام وإلى الرسول r وإلى أمته.. ولقد بين الله هذا الأمر وأظهره غاية البيان والإظهار، فقال جل وعلا مقسماً قسماً عظيماً في قوله الكريم: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ﴾[ النساء:65]. إن التسليم لحكم الله وحكم رسوله والمتمثل في كتاب الله وسنة رسول الله والقبول به مع الارتياح وعدم الحرج هو الترجمة الحية لصدق الإيمان وحقيقة الإسلام.. غير أن طائفة من الناس تحسب الإيمان مجرد دعوى وانتساب ثم لا يتحاكمون إلى شرع الله إلا إذا كانت لهم مصلحة في ذلك. تأكدوا بأن الحق في جانبهم، أما إذا شعروا بأن الحق عليهم وأنهم سيلزمون به ، فإنهم يتهربون ويلفون ويدورون وفي هؤلاء وأمثالهم يقول الله تعالى مبيناً حقيقتهم وكاشفاً نفاقهم: ﴿ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[النور:47-50].
هذا الفريق الذي يدعي الإيمان ، ثم يسلك هذا المسلك الملتوي، إنما هو نموذج للمنافقين في كل زمان ومكان.
المنافقون الذين لا يجرؤون على الجهر بإعلان كفرهم خوفاً من الحكومات الإسلامية ـ إن وجدت ـ أو خوفاً من الشعوب المسلمة التي تغضب لربها وتتأثر لحرمات الله إذا انتهكت، فيضطر المنافقون حينئذ إلى التظاهر بالإسلام. ولكن أمرهم ينكشف حين يدعون إلى تحكيم شريعة الله ، الاحتكام إليها ، بإبائهم وإعراضهم وانتحالهم المعاذير.. واختلاقهم الأكاذيب، فراراً وهرباً من تنفيذ حكم الله ورسوله وقد وضح الله أمرهم في سورة النساء حيث قال سبحانه: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً ﴾[النساء:61]. يا سبحان الله أين دعوى الإيمان وأين الانتساب إلى الإسلام. إن النفاق يأبى إلا أن يكشف نفسه بموقف المنافقين وسلوكياتهم من الإعراض والصدود وعدم التحاكم إلى الله والرسول.
إن الرضى بحكم الله ورسوله هو دليل الإيمان الصادق، وهو الترجمة العملية لاستقرار الإيمان في القلب، وإن الرضى بحكم الله ورسوله هو الأدب الواجب مع الله ورسوله، وما يصح ولا يستقيم أن يدعي شخص أنه يؤمن بالله ورسوله ثم يرفض حكم الله وحكم رسوله . لا يفعل ذلك إلا المنافق معلوم النفاق الذي لم يُشرق قلبه بنور الإيمان، ولم تزك نفسه وتتطهر من الكفر والعصيان، ولهذا نجد أسئلة التعجب والاستنكار لأدعياء الإيمان الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ويرفضون حكم الله ورسوله ولا ينقادون إلا إذا كان لهم الحق أو لهم مصلحة، فيقول سبحانه: ﴿ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ... ﴾[النور:50]، فالسؤال الأول يثبت لهم علة المرض الذي ينحرف بالإنسان فلا يرى الأشياء على حقيقتها والمنافقون يرون الحق باطلاً والمعروف منكراً، والاستقامة جموداً وتخلفاً.. والتمسك بالدين إرهاباً وتطرفاً.
والسؤال الثاني للتعجب (أم ارتابوا؟) هل يشكون في حكم الله وهم يزعمون أنهم مؤمنون، هل يشكون في صلاحيته لإقامة العدل، أم يشكون في مجيئه من عند الله ، على أية حال فهذا ليس طريق الإيمان ولا هو من صفات المؤمنين .
والسؤال الثالث: للاستنكار والتعجب من أمرهم الغريب ﴿ ... أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ... ﴾[النور:50] وإنه لعجيب أن يقوم مثل هذا الخوف في نفس إنسان، فالله خالق الجميع وهو رب العالمين، فكيف يحيف على أحد من خلقه لحساب آخر من خلقه، تعالى الله عن ذلك وتقدس.
.