هكذا يرسم العظام طريق المجد ويمهدون طريق العودة يجعلون من جماجمهم سلماً ترتقي الأمة من خلاله لتصل إلى العلو السامق والمجد الرفيع..هكذا تسلم جميل الراية، وهكذا سلمها …. خفاقة عالية عزيزة …هاهو ينظر عن بعد إلى الراية التي فيها جزء منه ويومئ جميل بابتسامته الهادئة المعهودة.. ويغمض عينيه في رضى وابتسام ……"
تنطلق السيارة القسامية يقودها السائق الماهر (جميل وادي) وإلى جواره المجاهد القسامي (عماد عقل)، وفي الخلف المجاهد (أحمد انصيو)، رياح الصباح الأولى تعبق المكان وعشرات السيارات تهاجر نحو الشمال بحثاً عن الرزق، يهمس السائق قائد المسيرة تأكيده للخطة المرسومة بالانطلاق إلى الخط الشرقي لمدينة غزة بعد اختراق الشجاعية وعلى هذا الطريق يمر فجر كل يوم جيب دورية عسكرية صهيونية للقيام بأعمال الحراسة اليومية تنطلق خلفه سيارة البيجو ثم تتجاوز الجيب العسكري وتنطلق الحمم القسامية من بندقية كلاشنكوف يحتضنها المجاهد عماد عقل وبندقية M16 يتولى توجيهها المجاهد (أحمد انصيو)، والقائد الماهر يتحرك وفق الخطة المناسبة … وهاهو الجندي الصهيوني في الخلف يترنح، وهاهي زخات الرصاص الهدار تصيب سائق الدورية الصهيونية والقائد المجاور له يهوي… وينطلق السائق الماهر نحو مدينة غزة وعبارات التهنئة تنطلق من كافة المجاهدين نحو بعضهم البعض ورياح كانون الأول الباردة تلفح الوجوه المجاهدة وبعد أقل من ساعة تتواتر الأنباء بمقتل الجنود الثلاثة الذين استقلوا الجيب العسكري،سعد الجميع بهذه الأنباء التي أقضت مضاجع الصهاينة فهذا التحول النوعي باتجاه العمل العسكري من قبل كتائب القسام كان نذير شؤم،فها هي الكتائب تتبلور لتشكل قوة عسكرية لا يستهان بها،و ربما لذلك تعجلت إسرائيل خطوتها التصنيعية بهذه العملية التي وقعت في السابع من ديسمبر من العام ألف وتسعمائة واثنين وتسعين، وبعد هذا العمل الجهادى النوعي الذي هز أركان القيادة العسكرية الصهيونية دفعها بعد أيام، وتحديداً في الثالث عشر من ديسمبر إلى اتخاذ قرار الإبعاد الجماعي لكوادر وعناصر و أنصار حركة المقاومة الإسلامية حماس والجهاد الإسلامي.
كان جميل وادي أكثر السعداء بهذا الإنجاز، فهو قائد المجموعة التي تحركت لهذا العمل الرائع وهو الذي يبدأ الآن مسيرة جديدة للكتائب القسامية … فقد تم اختياره قائداً لمجموعات المطاردين القسامية في قطاع غزة..بعد أن رحل الشهيد ياسر النمروطي الذي كان يرى فيه جميل القدوة في الولاء والإخلاص والجهاد والفدائية، كما كان يرى في المجاهد (يحيى السنوار) المعلم والأستاذ،ولا يملك جميل أمام هذا الفتح المبين إلا أن يخر ساجداً لله رب العالمين يحمده على عظيم كرمه وهو يردد "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى".
عاش جميل هذه الليلة في حلم جميل وقلبه الراقص على أنغام زخات الرصاص يجوب به كل الأرجاء، ومازال يبتهل إلى الله تعالى أن يحفظ المجاهدين خاصة وفي ظل منع التجول الذي فُرض على مدينة غزة بأكملها.
يرحل جميل بخاطره إلى خان يونس..مدينة الفداء التي عشقها حتى الثمالة، وهناك اتجه إلى منطقة (مثلث الرعب) الحمساوي المجاور لمسجد الحبيب (عباد الرحمن).. هناك حيث ذاق اليهود أصنافاً من المواجهات الفدائية العارمة، طاف في المسجد الحبيب إلى قلبه وتفقد كل جدار وعمود... توجه إلى المحراب..كم يشعر بالانتماء … وهاهو مسجد (الإمام الشافعي) الذي درجت فيه خطواته الأولى حيث تعلم أبجديات العمل الإسلامي، وهاهو ينطلق الآن.. تذكر يوم احتضنته جماعة (الإخوان المسلمين) حتى غدا نقيباً يشرف على مجموعة من الأسر الإخوانية هناك. وتذكر بكل الفخر أستاذه (يحيى السنوار) " أبو إبراهيم " حيث مكث ما يقرب الشهر ويحيى يجري اختبارات أمنية لشخصية (جميل) …. حتى نجح فيها وضمه إثر ذلك إلى جهاز الأمن والدعوة (مجد) في حركة المقاومة الإسلامية(حماس)، وكان ذلك قبل انطلاق الانتفاضة المباركة.
وذكر يوم انطلقت الانتفاضة وأجج لهيبها شباب (الكتلة الإسلامية) والتي كان جميل أحد أبنائها في(الجامعة الإسلامية)، حيث كان يدرس في كلية أصول الدين، ويومها جاءت تعليمات صريحة من المجاهد (يحيى السنوار) بالخروج إلى الشوارع وإشعال الإطارات وتنظيم المظاهرات ورجم الحجارة و إدارة الفعاليات في منطقته.
واستمر جميل بهذا الحجم من المبادرة والنشاط والسبق حتى قدمت قوات الاحتلال إلى منزله في مطلع الانتفاضة، وكان ذلك بتاريخ 18 /1/ 1988م حيث اعتقل مع شقيقه الأصغر(زهدي)ومكث في السجن ست وثلاثين يوماً في تحقيق متواصل، وكانت هذه من أطول فترات التحقيق الفعلية في تلك الفترة. وبعد أقل من شهر من خروجه من السجن، اعتقل أثناء مواجهات لقوات الاحتلال، وفي محكمة عسكرية نال الحكم الأقصى على رجم الحجارة، حيث حكم بالسجن عاماً ونصف العام، وقد تم إعلان اسمه في الإذاعة والتلفزيون الإسرائيلي وفي الصحف العبرية، حيث أصدر الأمر بالحكم الأول من نوعه (اسحق مردخاي) القائد العسكري للمنطقة الجنوبية حينها.
ورحل (أبو إبراهيم) إلى سجن النقب الذي افتتحه وإخوانه، وكم عانوا مواجهة مشقات الحياة في الشمس اللاهبة والمعاملة السيئة والمقومات البدائية.
وككل أبناء فلسطين لابد أن يساعد أهل بيته، فأتقن أعمال البناء خاصة الطوبار وبدأ يعمل في إجازته الصيفية ليساعد في تحمل تبعات الحياة الثقيلة، كل هذه الحياة الحافلة بالكد والصبر والمجاهدة.. وهذه التجارب الصعبة خلف أسلاك النقب الثائر أظهرت المعدن النفيس لجميل وادي صاحب الانتماء الحديدي والتضحية الواثقة، فلم تكن الأيام القاسية والليالي الحالكة تفت في عضده بل زادته قوة وبأساً وطمأنينة وعزماً ومضاء لمواصلة طريق الحق والقوة والحرية، واختار ذات الشوكة فساهم بشكل فعال في تأسيس كتائب القسام في منطقة خانيونس. وانطلق يؤدي دوره الطليعي الجهادي من خلال إعداد وتجهيز وشراء وتدريب الكوادر الفاعلة واستمر يؤدي هذا الدور الريادي حتى جاء قدر الله ليرسم للمتوثب نوراً وناراً مسلكاً جديداً ودرباً متميزاً للطليعة الفذة من الكتائب القسامية ورجالها الأوائل، وذلك حين محاولته شراء سلاح لكتائب القسام وتم كشف شخصيته لتاجر الأسلحة، ومن يومها غدا جميل مطارداً وقرر ألا يقوم بتسليم نفسه لقوات الاحتلال، وكان عليه إذاً أن يخوض مرحلة التحدي بكل العزم و البذل والمضاء.
لم يكن هذا العطاء جديداً على رجل عركته الأيام وخلقت منه هذه الشخصية القيادية الصابرة المتقدمة … فخاض الغمار بكل عزم وثبات، وكان جميل يوم أعلن قبوله دخول المرحلة مسئول الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية ( حماس ) في منطقة خانيونس.