يخترق صفوف الشباب الصهيوني في مدينة تل أبيب التي لا تحترم حرمة يوم السبت، يقف معهم كأنه واحد منهم. شباب وشابات بعمره، ولكن الاختلاف أنهم يصطفُّون لدخول ملهى ليليّ يُسمَّى "الدولفين"، بعضهم سكارى، وآخرون يصطفُّون للدعارة، وجنود في زيٍّ مدني، لكن سعيد لم يأتِ ليرقص أو يلهو، بل ليفجِّر نفسه، ويقتل 21 إسرائيليًّا معلنًا استمرار المقاومة بوسط تل أبيب.
ذلك الشاب "سعيد الحوتري" وهو الاستشهادي العاشر لكتائب عزِّ الدِّين القسَّام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، الذي جعل من شظايا جسده مدافع تخترق أجساد المحتلين، الذين يرقصون ويلهون، وفي الوقت نفسه يقتلون، ويحاصرون، ويهدِّمون المنازل، ويقتلعون الأشجار. سعيد الحوتري هو من قام بعملية تل أبيب في الأول من حزيران/ يونيو والتي تُعَدُّ من أكبر العمليات الاستشهادية في قلب الكيان الصهيوني. علمًا بأن 47% من الاستشهاديين هم أكاديميون، وليس مثلما يقال بأنهم من طبقات مسحوقة ومستوى علمي متدن.
تمتلئ الشوارع في مدينة قلقيلية بالصور والملصقات للشهيد سعيد الحوتري، وهو ثالث شاب يقوم بعملية استشهادية في قلقيلية؛ ولذلك فإن المدينة فخورة به، وحتى الأطفال يقولون: "نحن نريد أن نكون مثل سعيد، فهو بطل".
سعيد.. نظيف اليد واللسان
جاء سعيد إلى مدينة قلقيلية في شمالي الضفة الغربية قادمًا من الأردن؛ لكي يعمل ككهربائي، ولأسباب أخرى حسب ما ذكره والد الشهيد: "ذهب سعيد إلى فلسطين لأنها وطنه، وعليه أن يعيش ويخدم وطنه، وأيضًا لكي يكسب بعض النقود لكي يبني حياته، ويساعد أهله". في العام 1999م انتقل الشهيد إلى قلقيلية وهي المدينة التي هاجرت منها أسرته بعد احتلال الضفة الغربية في العام 1967م. هناك حيث بيت العائلة الكبير، اتخذ من أحد غرفه منزلاً له. كان يعمل في قلقيلية ومدينة جلجوليا داخل الخط الأخضر وكان سعيدًا بذلك.
أجمع كل من عرف سعيد تدينه الشديد، فلم يكن يغيب عن المسجد، يحضر الدروس الدينية، ويصلي كل الصلوات في المسجد. كان شابًّا محبًّا نظيف اليد واللسان، ومن أهم صفاته الهدوء والسكينة، فلم يكن يختلط كثيرًا بالناس، وأصدقاؤه لم يتجاوزوا الخمسة، ويبعث بما تيسَّر من مال إلى أهله في الأردن.
ابن عمه "عبد الله الحوتري" يقول: "بعدما قام (فادي عامر) الصديق العزيز لسعيد بعملية استشهادية حدث نقاش بيني وبينه، حيث لم أكن أؤيد العمليات الاستشهادية، ولكن سعيد قال لي بأن كل عائلة يجب أن تقدم استشهاديًّا لكي تتحرر البلاد".
الغريب في الأمر أن الشهيد فادي عامر والذي قام بعملية هو أحد أقرب أصدقاء الشهيد سعيد الحوتري والذي قام بعملية قبل سعيد بفترة ليست طويلة؛ ولذلك فإن سعيد الذي فقد صديقه العزيز الذي كان يلازمه طوال الوقت، حيث استشهد بعملية مع استمرار معانات الشعب الفلسطيني، ومن هنا نستنتج أن الحالة النفسية لسعيد طرأ عليها تغير ملحوظ، خاصة عندما أيَّد تلك العملية التي مات بها صديقه، بمعنى أن تأيده للعمليات الاستشهادية وفقدان صديقه عمل على تحضير سعيد ذاتيًّا للقيام بالعملية.
لم يكن هاوي سياسة
ومن الأمور الغريبة أيضًا أن سعيد الحوتري لم يكن يتحدث بالسياسة مثل باقي الفلسطينيين، ولم يكن منتميًا إلى أحد الحركات السياسية الفلسطينية، ولكنه كان يبدو متأثرًا بحركة حماس، وبالتالي فسعيد لم يكن سياسيًّا بطبعه، وأوضح ذلك والده الذي يسكن في الرصيفة القريبة من العاصمة الأردنية عَمَّان بقوله: "لم يكن سعيد هاوي سياسة، ولكني علَّمته حب الوطن، ولم أعلِّمه أن يكره اليهود في المقابل؛ لأنني علمته الحب ولم أعلِّمه الكره". عائلة سعيد والتي تعيش حالة اقتصادية متوسطة الحال لم تكن ناشطة سياسيًّا؛ ولهذا فإن إعلان كتائب القسَّام اسم الشهيد سعيد منفِّذ عملية تل أبيب كان مفاجأة كبيرة للعائلة وأصدقاء سعيد.
عبد الله حوتري يوضِّح الأشهر الأخيرة من حياة سعيد: "عندما بدأت الانتفاضة ولم يَعُد باستطاعة سعيد العمل في مجال التمديدات الكهربائية، فإننا طلبنا منه العمل معنا في بيع وتوزيع الخضراوات، وكان يأتي إلى المحل للبيع في الحسبة (مجمع لبيع الخضراوات)، وكان يبعث النقود إلى أهله، حيث بعث آخر مرة 200 دينار أردني إلى أهله، ولكن قبل أن يقوم بالعملية ببضعة أيام قلت له، يا سعيد لك 250 دينارًا فتعالَ وخُذ المال، فلم يأت سعيد، وقال لي: ابعثْهُم أنت، فلم أفهم قصده، وعندما قام بالعلمية واستشهد فهمت قصده. وأيضًا قبل يوم من العملية جاء إلى بيتي وأعطاني هاتفه الخلوي؛ لكي أتحدث مع الأهل في الأردن، وشدَّد عليَّ أن استمر في الحديث بالرغم من أن ذلك سيكلفه الكثير، وبعدها فهمت بأنه عندما يستشهد لن يكون بحاجة إلى ما تبقَّى في رصيده المدفوع مسبقًا، لم أكن لأظن للحظة واحدة بأن سعيد قد يقوم بالعملية، وحتى عندما اختفى بعد العملية، لم أكن لأتوقع بأن سعيد من قام بها، ولكن عند إعلانه منفِّذًا للعملية كانت مفاجأة كبيرة".
الدخول إلى غرفته
أما أخو الشهيد "علاء الحوتري" والذي يعيش في قلقيلية، فيقول: "لم أكن أتحدث مع سعيد كثيرًا؛ لأنه كان هادئًا، ولا يختلط بالناس، ويدخل من باب غير الباب الذي أدخل منه، وفي يوم العملية لم يأتِ ليودعني، يا ليته قال لي على الأقل، فخرج دون أن أراه، وفي الليل كنت أبحث عنه دون فائدة، وعندما سمعت بالعملية لم أكن لأتوقع أخي، فهو هادئ ولا يعمل مشاكل مع أحد، إنه لا يستطيع قتل دجاجة، الله يرحمه".
غرفة الشهيد في قلقيلية عليها رسوم "ميكي ماوس" قام برسمها عندما جاء إلى قلقيلية قبل سنتان ونصف، وأيضًا مجموعة من الكتابات على الحائط، منها: "وداعًا لطيور السوداء، سافرت في رحلة لم تَعُد"، "واسأل النجم والأنسام عن فجر الأحبة"، "الحب لحن جميل" ، "قلبي يحترق لفراقك يا حبيبتي"، "ليتك تعرفي كم تضيق بي الحياة عندما أكون بعيدًا عنك". هذه المجموعة من الجمل إنما تدلُّ على مدى رقَّة وجمال روح ذلك الشاب الشهيد.
يروي وجيه قوَّاس أحد قادة حماس في قلقيلية علاقته بالشهيد: "كان سعيد يأتي إلى المسجد باستمرار، ويحضر الدروس الدينية، ولم تكون لي معه علاقة قوية، وعندما استشهد صديقه فادي عامر، اعتقلته أجهزة الأمن الفلسطينية، وهناك قام أحد الضباط بضرب الشهيد سعيد، ولكن بعد الإفراج عنه قام ذلك الضباط بالاعتذار للشهيد سعيد، وقال لي لا أعرف كيف ضربت ذلك الشاب إنه كالملاك، على كل حال ذهبت عند اعتقال سعيد لأعرف سبب الاعتقال، وسمعت بأن الضابط ضربه، وعملت على الإفراج عن سعيد، وعندما خرج لم أكن أعرفه، وقال لي أحد الأشخاص بأن ذلك هو سعيد، فتفاجأت كثيرًا، فهو هادئ ولطيف، وكانت المفاجأة الكبرى عندما أعلنت كتائب القسَّام اسم الاستشهادي العاشر سعيد الحوتري".
التنفيذ بمساعدة جاسوس