وبعد الشهادة بشرى
قصة كتاب "وأظلمت المدينة"
قضتِ الحربُ الأخيرةُ على غزَّةَ على كثيرٍ من المعالم البارزة، والأعلامِ الشَّامخة؛ فقد ألقى اليهودُ حممًا من اللَّهب، وأطنانًا من كلِّ ما يُبيدُ الحرثَ والنَّسل، حتى غَدَتْ غزَّةُ بعد الحرب حديثَ ألَمٍ وأمل.
ومن تلك المعالِم التي لم تَزَلْ شامخةً بعزَّة:
الدينُ في بلادنا، شيخُنا الشهيدُ الإمامُ نزار عبدالقادر الريَّان، الذي لم ينقطعْ عن التضحية والعطاء لأمَّته، حتى أدركَتْه السُّنةُ الإلهيَّة التي يُحِبُّها الصالحون الصابرون المرابطون: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران: 140].
قرب ظهيرة يوم السبت، الثَّامن والعشرين من ذي الحجة لعام تسعة وعشرين وأربعمائة وألفٍ، بدأتِ الحربُ على غزَّة، فانتَفَضَ المجاهدون وأخذُوا أماكِنَهم، والشَّيخ في ساحة القتال معهم يأخذُ دورَه في الرِّباط والجهاد، وتزاحَمَتْ مواكبُ الشُّهداء، وتزاحَمَ الناسُ عليها لتوديعِهم، والصلاة عليهم وتشييعِهم، فكان الشيخ يَخطُبُ الناسَ، يَحثُّهم على الصبر والجهاد، حتى كان يومُ الخميس من الأسبوع نفسِه، ليتزاحمَ الناسُ على موكب الشهداء الجديد، لكن في هذه المرة كان الموكبُ يَضُمُّ الشيخَ وآل بيته.
وبعد سبعةِ شهور على انقضاء هذه الحرب أكتبُ شيئًا؛ وفاءً وحبًّا وبرًّا، بعد أن أنقذْنَا ما تَبَقَّى من كتبِ المكتبة العامرة، وأخرجْنَاها من تحت "الردم"، ولم نَجِدْ مكانًا مناسبًا لها، أَتَيتُ بها إلى بيتي، فضاق المكانُ الذي عندي عنها، وإنَّ لي جارًا صالحًا، أخبرْتُه بالأمر، قال: عندي غرفةٌ لا أستعملُها، وأنا في سعادةٍ عظيمةٍ أنْ أودعت في بيتي شيئًا مما تبقَّى من كتب الشيخ/ نزار ريَّان أبي بلال، ففعلتُ، وكان مما أودعْتُه عنده بعضُ نُسَخٍ من كتاب "وأظلمت المدينة"، كان القصفُ اليهوديُّ أساءَ إليها جدًّا بالحرق والخرق والتمزيق، ثم إنه بعد ما يقرُبُ من شهر من انتهاء الحرب، جاء محمد ابن الشيخ نزار ومعه شابٌّ في سيَّارة، يطلبُ بعضَ الكتب التي كان تأثيرُ القصفِ والتدمير عليها كبيرًا، وأن يكون من ذلك نسخة من كتاب "وأظلمت المدينة"، فاتَّصلتُ بأخي الذي أودعْتُ عنده الكتب، طلبتُ منه أنْ يُرسِلَ لي نسخةً مما عنده، فأَرسَلَها، فلمَّا أَسْلَمْتُها لمحمَّد، أَسلَمَها هو للشَّابِّ، وكان يقودُ السيارة، فَفَتحَ الكتاب، ثم قال لي: من أين هذه الرائحة الطَّيِّبة للكتاب؟ أمسكتُ الكتابَ، ففاحت رائحتُه الطيبة، قلتُ له: ربَّما يكونُ صاحبي قد جَعَل عليه طيبًا، ثم انصرفا.
اتَّصلتُ بأخي، قلتُ له: (أبا حسام)، طلبتُ منك تُرسِلُ لي الكتابَ بحالته، ولم أطلبْ منك أنْ تُطَيِّبَ الكتاب، قال لي: إنَّ هذا لم يحدثْ، لم أكن لأُطَيِّبَ الكتاب، ثم تذكَّرتُ في نفسي أنَّ رائحةَ الطيب الزكية التي أنعشتْ نفسي، لم أشمَّها أبدًا من (أبي حسام)، قال لي: والله إن هذه الرائحة التي تَذْكُر أنك وجدتَها، إني أجدُها من الكتب التي عندي، وخاصَّةً كتاب "وأظلمت المدينة"، فاستدعاني لأقفَ على الأمر بنفسي، فلمَّا فتحتُ الكيسَ الذي جعلتُ فيه هذه النسخ من كتاب "وأظلمت المدينة"، وجدتُ هذه الرائحةَ الزكيَّةَ الطيبةَ، قَلَّبتُ صفحاتِ هذه النسخ ورائحةُ الطيب تفوحُ حولي، وما زالتِ الرائحةُ تزدادُ كلما أُقَلِّبُ الصفحات، ولا يوجد أيُّ أثر يدل على أن هناك طيبًا ربما يكون قد انسكب على هذه النسخ.
فعدتُ إلي منزلي حيثُ الكتب، ووضعتُ يدي على "وأظلمت المدينة"، فلمَّا فتحتُه وجدتُ هذه الرائحةَ الطيبةَ، التي لا أبالغ إنْ قلتُ: إني لم ولن أجدَ أطيبَ منها، وإلي الآن ما زِلْتُ أجدُ هذه الرائحةَ كلمَّا أفتحُ أيَّ نسخةٍ من هذا الكتاب والرائحةُ كما هي.
كتبْتُ هذه الكلمةَ ونسخة من كتاب "وأظلمت المدينة" فتحتُها بين يدي، أَرْتَشِفُ هذه الرائحةَ الزكيَّةَ المباركةَ، العينُ تدمع، والقلبُ يخشع، أتذكَّر حيثُ كان الشيخ يقرأُ هذا الكتابَ ولا يفارقُه البكاء، خَتَمَه بالكلمات الرقيقة التي كانت - وما زالت - تهُزُّ كيانَ مَن ينظرُ إليها، يقول: "نادَى المنادِي مِن رُبَى طيبَةَ بِلال، ومَضَتْ رَكائِبُ زَحفِنا مُتَضَمِّخِينَ المِسكَ مِن طيب الفِعال، سيدي أبا القاسم، "وأظلمت المدينة" لمَّا طَواك الثَّرى، فلا عاشَ مَن لم يعشْ لرسالتِك رسالةِ السماء، سيدي رسولَ الله، سلامٌ عليك في الأوَّلين، سلامٌ عليك في الآخرين، سلامٌ عليك، سلامٌ عليك، سلامٌ عليك، سلامٌ عليك، سلامٌ عليك، سلامٌ عليك، سلامٌ عليك، سلامٌ عليك، سلامٌ عليك.
سيدي أبا القاسم، يا حبيبَ قلبي، ويا حبيبَ ربي، عليك السلام.
سمعتُه يقولُ - وقد أخرجَ الكتابَ لطباعتِه في الخارج في (دار المنهاج) - يقول: أخرَجْتُ هذا الكتابَ، ولم تَتَعَلَّقْ نفسي بأيِّ منفعةٍ ماديَّة تعودُ عليَّ مِن نَشْره، أخرجْتُه لله، وحبًّا للنَّبيِّ - سلم - أقل ما يُمكِنُ أن يكونَ في باب حبِّ النبي - سلم -.
طِبْتَ حيًّا وميتًا شيخَنا أبا بلال، لا عِشنَا إن لم نكنْ على هَدْي نبيِّنا - سلم - وعلى هَدْي العلماء الصالحين، كيف لا تَجِدُ الطيب، ولَمَّا أردتَ أن تُرسلَ إلى مسجد الخلفاء الراشدين بما يَقرُبُ من مائةٍ وخمسين نسخةً من المصحف، لم تُرسلْها للمسجد حتى اشتريتَ الطيبَ وطَيَّبْتَ به هذه النُّسخ نسخةً نسخةً؟! دُمْتَ طيبًا شيخَنا أبا بلال.
قصة كتاب "وأظلمت المدينة"
قضتِ الحربُ الأخيرةُ على غزَّةَ على كثيرٍ من المعالم البارزة، والأعلامِ الشَّامخة؛ فقد ألقى اليهودُ حممًا من اللَّهب، وأطنانًا من كلِّ ما يُبيدُ الحرثَ والنَّسل، حتى غَدَتْ غزَّةُ بعد الحرب حديثَ ألَمٍ وأمل.
ومن تلك المعالِم التي لم تَزَلْ شامخةً بعزَّة:
الدينُ في بلادنا، شيخُنا الشهيدُ الإمامُ نزار عبدالقادر الريَّان، الذي لم ينقطعْ عن التضحية والعطاء لأمَّته، حتى أدركَتْه السُّنةُ الإلهيَّة التي يُحِبُّها الصالحون الصابرون المرابطون: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران: 140].
قرب ظهيرة يوم السبت، الثَّامن والعشرين من ذي الحجة لعام تسعة وعشرين وأربعمائة وألفٍ، بدأتِ الحربُ على غزَّة، فانتَفَضَ المجاهدون وأخذُوا أماكِنَهم، والشَّيخ في ساحة القتال معهم يأخذُ دورَه في الرِّباط والجهاد، وتزاحَمَتْ مواكبُ الشُّهداء، وتزاحَمَ الناسُ عليها لتوديعِهم، والصلاة عليهم وتشييعِهم، فكان الشيخ يَخطُبُ الناسَ، يَحثُّهم على الصبر والجهاد، حتى كان يومُ الخميس من الأسبوع نفسِه، ليتزاحمَ الناسُ على موكب الشهداء الجديد، لكن في هذه المرة كان الموكبُ يَضُمُّ الشيخَ وآل بيته.
وبعد سبعةِ شهور على انقضاء هذه الحرب أكتبُ شيئًا؛ وفاءً وحبًّا وبرًّا، بعد أن أنقذْنَا ما تَبَقَّى من كتبِ المكتبة العامرة، وأخرجْنَاها من تحت "الردم"، ولم نَجِدْ مكانًا مناسبًا لها، أَتَيتُ بها إلى بيتي، فضاق المكانُ الذي عندي عنها، وإنَّ لي جارًا صالحًا، أخبرْتُه بالأمر، قال: عندي غرفةٌ لا أستعملُها، وأنا في سعادةٍ عظيمةٍ أنْ أودعت في بيتي شيئًا مما تبقَّى من كتب الشيخ/ نزار ريَّان أبي بلال، ففعلتُ، وكان مما أودعْتُه عنده بعضُ نُسَخٍ من كتاب "وأظلمت المدينة"، كان القصفُ اليهوديُّ أساءَ إليها جدًّا بالحرق والخرق والتمزيق، ثم إنه بعد ما يقرُبُ من شهر من انتهاء الحرب، جاء محمد ابن الشيخ نزار ومعه شابٌّ في سيَّارة، يطلبُ بعضَ الكتب التي كان تأثيرُ القصفِ والتدمير عليها كبيرًا، وأن يكون من ذلك نسخة من كتاب "وأظلمت المدينة"، فاتَّصلتُ بأخي الذي أودعْتُ عنده الكتب، طلبتُ منه أنْ يُرسِلَ لي نسخةً مما عنده، فأَرسَلَها، فلمَّا أَسْلَمْتُها لمحمَّد، أَسلَمَها هو للشَّابِّ، وكان يقودُ السيارة، فَفَتحَ الكتاب، ثم قال لي: من أين هذه الرائحة الطَّيِّبة للكتاب؟ أمسكتُ الكتابَ، ففاحت رائحتُه الطيبة، قلتُ له: ربَّما يكونُ صاحبي قد جَعَل عليه طيبًا، ثم انصرفا.
اتَّصلتُ بأخي، قلتُ له: (أبا حسام)، طلبتُ منك تُرسِلُ لي الكتابَ بحالته، ولم أطلبْ منك أنْ تُطَيِّبَ الكتاب، قال لي: إنَّ هذا لم يحدثْ، لم أكن لأُطَيِّبَ الكتاب، ثم تذكَّرتُ في نفسي أنَّ رائحةَ الطيب الزكية التي أنعشتْ نفسي، لم أشمَّها أبدًا من (أبي حسام)، قال لي: والله إن هذه الرائحة التي تَذْكُر أنك وجدتَها، إني أجدُها من الكتب التي عندي، وخاصَّةً كتاب "وأظلمت المدينة"، فاستدعاني لأقفَ على الأمر بنفسي، فلمَّا فتحتُ الكيسَ الذي جعلتُ فيه هذه النسخ من كتاب "وأظلمت المدينة"، وجدتُ هذه الرائحةَ الزكيَّةَ الطيبةَ، قَلَّبتُ صفحاتِ هذه النسخ ورائحةُ الطيب تفوحُ حولي، وما زالتِ الرائحةُ تزدادُ كلما أُقَلِّبُ الصفحات، ولا يوجد أيُّ أثر يدل على أن هناك طيبًا ربما يكون قد انسكب على هذه النسخ.
فعدتُ إلي منزلي حيثُ الكتب، ووضعتُ يدي على "وأظلمت المدينة"، فلمَّا فتحتُه وجدتُ هذه الرائحةَ الطيبةَ، التي لا أبالغ إنْ قلتُ: إني لم ولن أجدَ أطيبَ منها، وإلي الآن ما زِلْتُ أجدُ هذه الرائحةَ كلمَّا أفتحُ أيَّ نسخةٍ من هذا الكتاب والرائحةُ كما هي.
كتبْتُ هذه الكلمةَ ونسخة من كتاب "وأظلمت المدينة" فتحتُها بين يدي، أَرْتَشِفُ هذه الرائحةَ الزكيَّةَ المباركةَ، العينُ تدمع، والقلبُ يخشع، أتذكَّر حيثُ كان الشيخ يقرأُ هذا الكتابَ ولا يفارقُه البكاء، خَتَمَه بالكلمات الرقيقة التي كانت - وما زالت - تهُزُّ كيانَ مَن ينظرُ إليها، يقول: "نادَى المنادِي مِن رُبَى طيبَةَ بِلال، ومَضَتْ رَكائِبُ زَحفِنا مُتَضَمِّخِينَ المِسكَ مِن طيب الفِعال، سيدي أبا القاسم، "وأظلمت المدينة" لمَّا طَواك الثَّرى، فلا عاشَ مَن لم يعشْ لرسالتِك رسالةِ السماء، سيدي رسولَ الله، سلامٌ عليك في الأوَّلين، سلامٌ عليك في الآخرين، سلامٌ عليك، سلامٌ عليك، سلامٌ عليك، سلامٌ عليك، سلامٌ عليك، سلامٌ عليك، سلامٌ عليك، سلامٌ عليك، سلامٌ عليك.
سيدي أبا القاسم، يا حبيبَ قلبي، ويا حبيبَ ربي، عليك السلام.
سمعتُه يقولُ - وقد أخرجَ الكتابَ لطباعتِه في الخارج في (دار المنهاج) - يقول: أخرَجْتُ هذا الكتابَ، ولم تَتَعَلَّقْ نفسي بأيِّ منفعةٍ ماديَّة تعودُ عليَّ مِن نَشْره، أخرجْتُه لله، وحبًّا للنَّبيِّ - سلم - أقل ما يُمكِنُ أن يكونَ في باب حبِّ النبي - سلم -.
طِبْتَ حيًّا وميتًا شيخَنا أبا بلال، لا عِشنَا إن لم نكنْ على هَدْي نبيِّنا - سلم - وعلى هَدْي العلماء الصالحين، كيف لا تَجِدُ الطيب، ولَمَّا أردتَ أن تُرسلَ إلى مسجد الخلفاء الراشدين بما يَقرُبُ من مائةٍ وخمسين نسخةً من المصحف، لم تُرسلْها للمسجد حتى اشتريتَ الطيبَ وطَيَّبْتَ به هذه النُّسخ نسخةً نسخةً؟! دُمْتَ طيبًا شيخَنا أبا بلال.