القسام ـ خاص :
لعلنا سمعنا عن بعض بطولات هذا المجاهد الأسطورة، لكن لكلام الأم طعم آخر، فهي التي ولدته وربته، حيث نشأ وترعرع أمام ناظريها، كما أنها تعرف تفاصيل حياته، فعندما تحدثك عن صفات وسلوك هذا الرجل منذ الولادة حتى الاستشهاد، تشعر وكأنك تعيش معه في تفاصيل حياته العامة والخاصة، وتكتشف كم كان هذا البطل العنيد يحمل من المزايا الخاصة جعلت منه نموذجاً قل مثيله لما كان عليه من التميز عن أقرانه في جميع مراحل حياته، حتى نال الشهادة التي كان يتمناها، وحصل عليها بالطريقة التي كان يطلبها، حيث كان يرجو الله تعالى بأن يرزقه الشهادة في سبيله أشلاءً مقطعةً، وتروي والدته في ذلك أنه جاء أحد المشايخ للقرية فقال له محمود: أن التدين في هذه القرية جيد ولكني سآخذك لقرية مجاورة، لأن التدين بها قليل، وأريد منك دعوة فقال الشيخ: ما هي؟ قال أدعو لي الله أن أتقطع قطعة قطعة في سبيله، فرفض الشيخ لصعوبة الأمر على نفسه ولكن مع إصرار محمود، دعا له الشيخ بالدعوة التي رغبها وأحبها وكان يطلبها من أهله وإخوانه.
والدة الشهيد محمود أبو هنود إحدى نماذج نساء فلسطين اللواتي قدمن الكثير وضحين بأغلى ما يملكن في سبيل الله، تروي لنا قصة ولدها محمود، من الميلاد وحتى الاستشهاد، وقد اقتبسنا من كلامها أهم المحطات والمواقف في حياة هذا البطل، فربما يحتاج الكلام عنه إلى مؤلف خاص.
واليكم نص المقابلة خاصة التي أجرتها "مجلة قساميون " مع والدة الشهيد القائد محمود أبو الهنود
نشأة طيبة
ولد محمود في 1/7/1967م يعني بعد النكسة بـ (25) يوم تقريباً، وأذكر عندما ولدته، ذهب به والده أبو أحمد إلى جده وقال له: يا والدي جاءنا ولد وأسميناه محمود، فقال الجد: الله يعينه يا إبني على اليهود ومقارعتهم، ورجع أبو أحمد مستغرباً من قول والده، وبعد أن أخبرني بذلك قلت له وما يدريك لعل الله يكتب لمحمود أشياء كثيرة في مقارعة اليهود وهذا زمن والإنسان لا يعلم ما يخفي!!
وعندما كان عمره (6) سنوات قال لي:"هاتي عصا بدي أضرب الأولا" سألته عن السبب فقال:"علشان بسبو الدين"، قلت له:"هؤلاء أطفال لم يربههم أهلهم فدعهم"، قال:"لأ بدي أضربهم علشان ما يروحوا على الناس".
فكان منذ الصغر وهو ابن (7) أو (8) سنوات يأتي من المدرسة ويذهب لبئر المياه فيأخذ ما يكفيه ليتوضأ، وعندما سألته إلى أين تريد الذهاب؟ قال لي:"سأذهب إلى المسجد كي أصلي"، رغم أن التدين لم يكن منتشراً في ذلك الوقت، كما هو عليه في هذه الأيام، حيث كان من رواد مسجد "أبو خليل".
عندما كان عمره (12) سنة، وفي أحد الأيام، حيث كنت أستعد لصلاة الفجر سمعت صوت بكاء يأتي من إحدى الغرف، فتوجهت نحو الصوت فإذا بمحمود قائماً يصلي في الليل ويبكي من خشية الله.
لمحمود (6) إخوة ذكور و(7) أخوات، سبعة منهم يحفظون كتاب الله عز وجل، وأتم محمود حفظه كاملاً خلال فترة الإبعاد إلى مرج الزهور، فكنت دائماً أنا ووالده وكذلك جده نربي الأبناء على تقوى الله والخوف منه وعدم الكذب والصدق في الحياة.
قاوموهم ولو بالحجارة
عندما كان محمود يرى اليهود يصبح إنساناً آخر تماماً، لما يعتريه من الغضب، ومن حرقة محمود على احتلال البلاد من قبل اليهود، كان يلوم والده وجده وجميع الناس الذين كانوا في تلك الفترة، على تركهم للمحتلين يعيثوا في الأرض فساداً وعدم مقاومتهم للعدو منذ البداية بكل ما أمكن، حتى ولو بالحجارة أو الأسلحة المخبأة لدى الناس منذ عهد البريطانيين، فما يكون من والده وجده إلاّ أن تغمرهم مسحة الإحراج من كلام الشاب اليافع.
ومن شدة حبه للجهاد كان ألعابه منذ الصغر مع أبناء قريته لعبة عرب ويهود وما شوهد في يوم من الأيام يأخذ مكان اليهود في اللعبة، بل كان يرفض رفضاً شديداً فما تراه إلاّ في مواقع العرب في اللعبة يقاوم ويطلق النار على مواقع اليهود.
همة عالية وصفات كريمة
خلال فترة دراسته في المرحلة الثانوية بالمدرسة الشمالية الموجودة خارج القرية، كان الطلبة يذهبون ويعودون بالباص، لكن محمود كان يقوم بذلك مشياً على الأقدام، يذكر أن محمود تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي في مدارس القرية.
وعندما بلغ (14) سنة، كان نعم الشاب الذي يعتمد عليه في جميع الأمور وخصوصاً أعمال الأرض من فلاحة وحرث وقطع للزيتون، بل كان هو الذي يحث إخوته على العمل في الأرض لأنها مصدر الرزق الوحيد تقريباً للعائلة ويوزع العمل بينهم.
كما عرف محمود بمساعدته للغير، فكان إذا رأى في القرية عائلة لا تستطيع جمع زيتونها من على الأشجار كان يقوم بجمع العديد من شباب القرية ويترأسهم لجمع هذا الزيتون، بل يقومون بتخزينه في أكياس ويحملونه للمكان الذي يرغب به صاحبه، وبعض الأحيان كانوا يعصرون هذا الزيتون.
كما كان كثير الحنان وباراً بوالديه، إضافة إلى أنه كان يأكل كل شيء من الطعام والشراب ويرضى بالقليل، فحياته كانت كما يقولون "خشنة"، ولم يعهد عليه أنه دلل نفسه برغم أنه يملك المال، لكنه كان كريماً وينفقه على الآخرين، وعندما كنت أقول له: وفر بعض النقود حتى نزوجك فيقول لي: أنني استثمر في "بنك الله" ويكفيني هذا، كما أنه كان هادئاً مع إخوانه، لكنه شديد الغضب على الاحتلال.
"لن آكل وأشرب شيء منها..."
ومما تميز به كثرة الورع، فكان يخاف من الحرام كثيراً، ومن القصص التي أذكرها عن ذلك، أنه في أحد الأيام كان والده يرعى بقرة فهربت منه وذهبت لأحد حقول الجيران ولم يستغرق وجودها في الحقل أكثر من دقيقة قبل أن يخرجها ولما علم محمود لاحقاً بهذه الحادثة من صاحبة الأرض ذهب لوالده وقال له أننا مثل "الدشاشة" البيضاء وأي شيء حرام يظهر فيها، ولما استفسر والده عن معنى الكلام ووضح له القصة وتفاصيلها قال محمود يا والدي ما دام هناك فصل الربيع وهناك حشيش في الأرض لن آكل أو أشرب شيء من هذه البقرة خوفاً من الحرام.
"اه..!! يبقى أنت يلي أخدت الأكل"
منذ كان عمره 17 سنة، كان لدي شعور انه ملتزم بالحركة الإسلامية، فعندما كنت أعد الطعام وأخبز على "الطابون"، ألاحظ أن نصف الطعام غير موجود فسألت أين ذهبت الكمية الناقصة؟ وكان هذا يحدث شبه يومياً، فلما سألت في إحدى المرات قائلة: هل الطعام أصبح يسرق؟ فضحك محمود، فقلت له: آه..!! يبقى إنت يلي أخدت الأكل"، فقال لي: احتسبيه لله يا حجة فقلت: ما دام الأمر كذلك فأنا أحتسبه، وعرفت أن محمود كان يطعم المجاهدين والمطاردين الأوائل للحركة الإسلامية قبل الانتفاضة الأولى.
أحبها.. فتخرج منها
تعلق محمود كثيراً بمدينة القدس المحتلة فكان يحرص كثيراً على الذهاب إليها والتواجد والصلاة في المسجد الأقصى المبارك ولعل الله وفقه وأكرمه بأن جعل دراسته الجامعية فيها حيث درس الشريعة بكلية الدعوة وأصول الدين في جامعة القدس، وأذكر له أنه كلما عاد من المدينة للقرية كان يقول لي: أنني اليوم تقاتلت مع اليهود وقامت مشاكل بيني وبينهم، فكان رحمه الله من الشباب الغاضبين كثيراً على تواجد الاحتلال الصهيوني بالمدينة المقدسة بشكل خاص وبأرض فلسطين بشكل عام.
محمود بين الحياة والموت.
في عام 1988 كنت على السطح فرأيت الجيش الصهيوني منتشراً في القرية فقلت: الحمد لله بأن محمود غير موجود في القرية، "بلاش يعمل مشاكل مع الجيش"، وما إن انتهيت حتى رأيته قادماً من بعيد على حمار يركبه، فلما رأى الجيش نزل بكل قوة وجرأة، ثم حمل حجراً وتوجه لأحد الجنود وقذفه به من مسافة قريبة، فأصابه في وجهه إصابة مباشرة، عندها قام أحد الجنود بقنص محمود وإطلاق النار عليه، فأصابت إحدى الرصاصات جزء من الكبد ولم يشعر بالإصابة، بل استمر في المواجهة مع اليهود، وبعدها جرى مسافة 100 متر واختبأ في أحد منازل الجيران، فجئته وقلت: " شو يا محمود خلاص فقال لي يا حجة سامحيني أنا بدّي أستشهد وهيها إجتني الشهادة والحمد لله وارضِ عنّي.."
بعدها جاء بعض الشباب بسيارة الإسعاف وتوجهو به لمستشفى في نابلس، وفي الطريق كانت دورية للجيش، فأمرت الإسعاف بالتوقف وإنزال محمود منه لكن الدكتور رفض فصعد أحد الجنود للإسعاف وقال: نزلوا هذا "الكلب" من هنا قاصداً محمود، طبعاً هذه صفة الصهيوني، فما كان من محمود برغم النزف الشديد وإصابته البالغة إلاّ وأن نهض وأمسك الجندي من ملابسه وبصق في وجهه وقال له: أيها الكلب أنتم قردة وخنازير ومصيركم إلى النار أما نحن فمسلمون ومصيرنا للجنة إن شاء الله وكل نقطة دم نزلت مني سبقتني للجنة، ولمّا وصل المستشفى أزالوا له الجزء الكبير من الكبد وظل في العناية المركزة أسبوع كامل وفي المستشفى شهر تقريباً.
وأثناء مكوثه في المستشفى اعتقل الصهاينة عشرين شبلاً من القرية بتهمة أن محمود كان يدرسهم ويحفظهم القرآن ومن هؤلاء الأشبال من صاروا قادة للعمل العسكري لكتائب القسام وعرف منهم الشهداء: ماهر جرارعة، وهاني رواجبة وفاي حمادنة الذي استشهد على يد السلطة حديثاً وكان قد حفظ القرآن وعمره 16 سنة على يد الشهيد محمود.
قلبت ولم تؤكل
في أحد الأيام كنت طابخة "مقلوبة" والجميع كانوا ينتظرون محمود لأنني كنت أرفض أن تقلب المقلوبة حتى يأتي، وكان في المسجد، فجاءأحد إخوته ليخبرني أن محمود أصبح في أول الطريق، فقلبت "المقلوب" ولم أرفع الغطاء حتى يكون بيننا وظلوا ينتظروه، وفجأة صرخ أحد إخوته أن (4) دوريات للجيش في القرية، يريدون دخول المنزل وفجأة وجدنا محمود يصرخ عليهم من بعيد "توقفوا أيها الكلاب ولا واحد منكو يدخل البيت بلاش تنجسوه تعالوا أنا محمود" وكان يأكل في "عرنوس" ذرة فقذفه في وجه أحد الجنود وصعد لوحده في الجيب الصهيوني من دون أن يمسكه أحد، وظلت المقلوبة كما هي لليوم الثاني ولم يأكل منها أحد، كانت هذه الحادثة بعد إصابته بشهرين واعتقل ستة أشهر، وعند المحكمة رأيت يد محمود ملفوفة فقلت له: يا محمود دخلت السجن مصاب وستخرج مصاب ما الحكاية؟ فقال: أن السجان كان "مغلبو" من زمان وبالأمس عندما دخل للخيمة وقفت له في أعلاها ورميت بنفسي عليه وأوسعته ضرباً غير أن جندي من بعيد أطلق باتجاهي النار فلم أصب إلاّ ببعض الشظايا في يدي.
هكذا عرفتك
مما أذكره عن حبه للشهادة ومقاتلة الأعداء، أنه في أحد الأيام قلت له أن ينتبه لحياته بعض الشيء، فقال لي: أتريدينني أن أعتقل ويحكم علي بالمؤبد؟ أم أستشهد؟ فقلت فوراً: أتمنى لك الشهادة على الاعتقال فقال: أنت الآن أمي التي أعرفها دوماً وهذا هو الكلام الصحيح، لو انتبهت لحياتي مثل الآخرين فستجدينني معتقل ومحكوم عليّ بالمؤبد، أنا لا أريد أن أعيش على أرض فلسطين وأرى اليهود أمامي دون أن أعمل شيء، أنا أريد أن أقاتلهم ولو استشهدت فسيكون أفضل من حياة ذليلة.
مع الإبعاد
كان ذلك عصر 17 ديسمبر من عام 1992، حيث كان محمود في المسجد يصلي، فدخل اليهود المنزل واعتقلوا اخوته وقالوا لا نردهم حتى يأتي محمود، فلما وصلته الخبر خرج من المسجد متوجهاً لقوات الجيش المتوقفة أمام المنزل، فلما رأى محمود إخوته قال لجنود العدو: أنزلوهم أنا محمود وصعد لوحده للجيب، ويعهد عليه أنه لم يرض أن يجره أو أن يدفعه جندي لحظة الاعتقال تجاه الجيب العسكري، وبالفعل صعد معهم وأبعدوه بعدها مباشرة إلى مرج الزهور بجنوب لبنان، وقد أبعد يومها من القرية (6) شباب.
بعد (40) يوماً من الإبعاد توجه أهل المبعدين الستة لأحد المنازل في القرية ليكلموا أبناءهم تلفونياً، فكلمته معهم وطمأنته علي وعلى أهله وامأننت عليه وعن بقية الشباب، وشعرت بأمل كبير في عودة المبعدين.
كأني ولدته اليوم
عند عودة محمود من الإبعاد كان ذلك وقت العصر، لكنني لم أره إلاّّ في منتصف الليل من كثرة احتفال أهل القرية به وبإخوانه المبعدين، وفي اللحظة الأولى عندما رأيته في السيارة شعرت أن هذا أسعد يوم لدي وكأنني ولدته اليوم.
وكنت قد علمت بعودته قبل يوم، فطبخت وصنعت الحلوى، وعند دخوله المنزل بعد منتصف الليل، قمت بدعوة جميع الناس المحتفلين بعودته لطعام العشاء ابتهاجاً وفخراً بمحمود وعودته سالماً غانماً.
بعد الإبعاد أصريت على تزويجه فقال لي:"أنا ابن جبال ومطاردة وقتل صهاينة وليش تظلمي بنات الناس معايا، وأنا بدي أتزوج من بنات الحور مش من بنات الدنيا".
مطلوب للاحتلال وأعوانه!
عام 1995 تقريباً ذهب محمود ليجلب سلاحاً مع أربعة من مجاهدي القسام وفي ميدان نابلس بالقرب من قرية "طلوزة" أوقفتهم دورية صهيونية للتفتيش، فرفض محمود وإخوانه الاستسلام وقاموا بإطلاق النار على الجنود فقتلوا جندياً وأصابوا آخر، ثم انسحبوا بعد ذلك، ومن حينها طورد محمود لليهود والسلطة، يذكر أن المجاهدين الأربعة الذين كانوا بداخل السيارة هم الشهداء الأبطال: خليل الشريف، ويوسف الشولي ومعاوية جرارعة وبشار صوالحة.
وخلال فترة المطاردة كان محمود ينشر فكر الحركة الدعوي والعسكري وبدأ يستقطب المجاهدين وينظم عملهم، وكان يحفر مغارات ويسكن فيها أثناء المطاردة كما كان خبيراً في الطرقات والجبار ودروبها ومسالكها خبيراً في التعامل مع البيئة القاسية للجبال من حيوانات وزواحف وحشرات.
فروا كالجبناء
جاء جيش العدو في يوم من الأيام وداهم البيت، وبدأ الضابط ينادي علي وكان اسمه "معروف" ويقول: يا حجة فاطمة، محمود أتعبني، محمود موتني فقلت له: إن شاء الله محمود يقتلك بيده، ثم وضعوا أسلحتهم على الأرض وارتمى الجنود على "الكنبايات" وعلى الفرض الملقاة على الأرض ليرتاحوا قليلاً فقلت له: " ماشاء الله جايين تناموا في منزل محمود أبو هنود!! جاي يا معروف للموت بإيدك، طيب أصبر"، وذهبت خارج المنزل وأصبحت أصرخ وأنادي على محمود وأقول"، يا محمود يا محمود وقعت الواقعة هي اليهود في بيتك وسلاحهم على الأرض تعال وطخطخهم كلهم، تعال يا محمود"، وما إن سمع الجنود هذا النداء حتى جمعوا سلاحهم وذهبوا خارج البيت مغادرين القرية بسرعة.
أنت الرقم (12)
اعتقل عند السلطة عام 1996 لفترة شهرين واستطاع الفرار من السجن، فكان عناصر السلطة يترددون علينا لإقناعنا بتسليمه، ويعرضون علينا المغريات، لكننا رفضنا كل ذلك، وبعد عمليات "محنيه يهودا" واستشهاد منفذيها وكان أربعة منهم من شباب القرية والخامس هو الاستشهادي خليل الشريف من مدينة نابلس، اختفى محمود عن أنظارنا لمدة سنة تقريباً وهدد اليهود بتفجير المنزل للضغط علينا وعليه لتسليم نفسه لكننا أخبرناهم أن محمود أعز بكثير عندنا من هدم المنزل.
بعد عام من المطاردة وفي أحد الأيام، كنت في المستشفى الوطني مع عمتي بنابلس وقفت صباح ذلك اليوم أنظر من الشباك وأستذكر محمود، مطلقة لساني بالغناء والعتاب للبطل، واشتعلت في قلبي نار الشوق والحنين له، فاستأذنت عمتي في الذهاب للبيت وكنت طول الطريق أدعو الله أن أرى محمود، فما إن دخلت المنزل فإذا به أمامي وفقدت الوعي مباشرة، فلما أفقت قال لي أنني رقم (12) في الأشخاص الذين رأوني اليوم وفقدوا الوعي، فجلست معه من السباح حتى المساء، يحدثني قصصه، ومن ضمن ما أخبرني به أنه أثناء عودته من الخليل لنابلس متوجهاً صوب القرية وكان يركب حماراً اشتراه له إخوانه، حيث تنكر بملابس رجل عجوز، وعندما كان يقترب من أحد حواجز العدو الصهيوني المنتشرة في الطرقات يمثل دور العجوز وينهر على الحمار فما كان من الجنود إلاّ الضحك وما علموا أن الذي يمر من بين أيديهم هو محمود الذي يبحثون عنه في كل مكان.
وبعد أن سار عدة كلومترات من الخليل فجأة تعب الحمار ولم يستطع السير، ترجل عنه وأكمل المسير مشياً على الأقدام وكان محمود ما مشاه تقريباً يتجاوز 60 كيلومتراً، وكان في طريقه يمر على البدو ليؤمن طعاماً للحمار، وعندما سألته:"يعني اهتميت بالحمار ولم تهتم بنفسك في الطعام" قال لي: أن الحمار أصبح أمانة في رقبتي وهو لا يستطيع أن يتحمل الجوع والعطش أما أنا فأتحمل، وكانت رجله قد تورمت من هذا المشوار فعالجها وما لبث قليلاً حتى ودعني وخرج متخفياً عن الجميع.
"تغداهم قبل ما يتعشوه"
لم تغب عن ذهني صور تلك الملحمة البطولية التي خاضها محمود مع القوات الخاصة الصهيونية، عندما تلقيت اتصال من إحدى نساء القرية تخبر أنها رأت عدة سيارات تدخل القرية ويترجل منها أناس غرباء، وفي نفس الوقت تقريباً كان محمود يفتح الشباك ويشاهد جنود القوات الخاصة للعدو من "وحدة دوفدوفان" بالمئات متمركزين في المنازل المحيطة، وأربعة طائرات والعديد من الآليات، حيث كان محمود متخفياً في أحد منازل القرية، ولما رأى الجنود ينصبون أسلحتهم استعداداً للهجوم على المنزل، حيث يريد العدو مفاجأته، وكان أمامه في العمارة المقابلة 9 جنود، فما كان منه إلاّ أن استعد جيداً وجهز سلاحه وقنابله وخرج من المنزل من الناحية الخلفية وراح يطلق النار على الجنود التسعة عن مسافة 10 أمتار تقريباً، وكان أخوه يسكن قريباً من المكان حيث شاهد المعركة وكان يختف ويكبر عند كل قتيل أو جريح صهيوني، وأثناء المعركة التي استمرت من العشاء وحتى الفجر كنت أدعو له.
وأثناء انسحابه كان يلقي بقنابله على مجموعات القوات الخاصة ويطلق النار في كل مكان وأثناء ذلك اصطدم بمجموعة من الجنود أطلقوا النار عليه فأصابوه، عندها جلس قليلاً وأصبح يخاطب نفسه أن لحظة الشهادة حانت، غير أنه شعر بالقدرة على السير ولم يشعر بما يشعر به الشهداء فعرف أنه ما زال في العمر بقية، فأكمل طريقه وما إن اقترب من أحد المنازل طالباً منهم المساعدة لوقف النزيف حتى رأى مجموعة من العدو أمامه فرمى عليهم حفنة تراب وتلا قول الله عز وجل:" وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون" ورمى بنفسه خارج المنزل باتجاه كروم الزيتون وصار يمشي من جبل لجبل حتى وصل لأحد المنازل، وكان أصحاب المنزل عندهم ذبيحة في نفس اليوم، وكان العدو يستخدم كلاب تقفي الأثر وعند وصول محمود لباحة هذا المنزل اختلط دمه بدم الذبيحة وكان عند أصحاب المنزل كلاب للحراسة "فتحاوشت" مع كلاب العدو ما أعطى ذلك فرصة لمحمود كي ينسحب من المكان ويكمل المسير، حيث مشي مسافة 20 كيلومتر حتى وصل لنابلس ومن شدة جرأته وحتى يختصر الوقت سار بجانب مستعمرة "عيبال" القريبة من نابلس وكان برغم جراحه يملك الوعي الكامل لتضليل العدو والاختفاء عن الطائرات الأربع التي تحوم في الجو على مدار الدقيقة مستغلاً الصخور المنتشرة في كل مكان.
ومن كثرة جراحه وخوفاً من أن يمسك به اليهود، ولم يبقى أمامه سوى جبل واحد حتى يصل لمدينة نابلس واختصاراً للوقت، نام على ظهره ودفع نفسه من فوق الجبل تدحرجاً حتى وصل أول مدينة نابلس، حيث كان سكان المنطقة يقفون على الشبابيك يشاهدون المعركة القائمة في عصيرة الشمالية وكانت السماء كأنها نهاراً من كثرة النابل المضيئة، وهناك وجد أحد الأطباء، فساعده في تضميد جراحه حتى وصل لمستشفى "الإنجيلي" بنابلس، واستطاع تضليل العدو، الذي لم يعلم أن محمود خارج المنطقة المحاصرة.
وبعد انتهاء المعركة فجراً جاءت قوات العدو لتداهم منزلنا بقيادة الضابط الصهيوني "معمروف" وكنت مع زوجي أمام المنزل، فإذا بالضابط "معروف" يدفعني أرضاً، غير أن زوجي أمسك حديدة كبيرة وهجم على الجنود، وبعد هدوء الموقف وقفت مخاطبة الضابط قائلة: "الآن لو قتلتم محمود مش مهم اذهب وشاهد دماءكم وأشلاءكم على جدران القرية".
لأول مرة أطلبها
في الصباح توجهت مع أفراد الأسرى لمستشفى "الإنجيلي" بعد أن وصلنا الخبر، وما إن رأيته حتى رفع رأسه وقال لي: يا أمي لم أطلب منك طول حياتي أن "تهائيلي"، أي تنشد له أناشيد تراثية، الآن أطلب منك ذلك لأنني بالأمس كنت صائم وشفيت غليلي من اليهود وقتلتهم وجهاً لوجه وبرنا أذلهم على يدي، وجاء حينها أحد رجال السلطة يخبرني أنه رأى المعركة عبر المنظار وشاهد (17) جثة لليهود تحمل في آليات عسكرية، فقمت أقبل يد ووجه محمود مفتخرة به وأقول له:"يا أمي قتلت 17 خنزير" وصدح صوتي ألبي له طلبه فقلت له وعلى مسمع من زوار المستشفى والممرضين والممرضات وجنود السلطة" يا أمي يا محمود ليستاهل ربي راية، وبوكيه الورد فيها.. أحمدك يا رب وأشكرك طلعت محمود سالم من المعارك إلي كان فيها.. يا أمي يا محمود تمنيتك حمل 100 حصان محملة سلاح من إيران.. ألف يمين لربك لا تغفا ولا تنام.. إلاّ لما تقتل اليهود وتجعل لحمهم ملزق على الحيطان".
إلى سجون السلطة
أخذت السلطة محمود من المستشفى للمقاطعة وحكموه 12 سنة وكانت المحاكمة في الليل، رغم أن 100 محامي من نابلس وضواحيها كانوا مستعدين للدفاع عن محمود وعند صدور الحكم راح يصرخ في وجههم ويقول أن 12 سنة تمر، ولكن لماذا حكمتم علي بهذا الحكم؟! لأنني قتلت عرب ومسسلمين؟! أم لأنني مجرم! أم لأنني قتلت محتلي هذه البلاد؟؟!!
وفي أحد الأيام ذهبنا لزيارته، فقال محمود لضابط السجن وكان يدعى "كاسترو" ناصحاً إياه بإخلاء السجن، لأنه كانت هناك عملية ضد اليهود في الأيام القريبة الماضية وهي من تخطيطه، ولا يوجد أمامهم سوى قصف السجن للوصول إليه كرد على تلك العملية، وبعد هذا الكلام ودعناه ، وما أن وصلنا للبيت حتى رن تلفون البيت، وأخبر المتصل بأن السجن قصف، فرجعنا مباشرة، وكنت أقول للأولاد أن محمود بخير ف
لا يقلقوا، وبعد أن وصلنا للسجن المهدم حتى علمنا أن محمود خرج سالماً غانماً حاملاً مصحفه حامداً لله عز وجل، وقد ذكر لنا ما حدث معه في أول لقاء جمعنا به بعد الحادثة فقال:"بعد خروجكم مباشرة ذهبت لأصلي، ثم أخذت القرآن ورحت أقرأ فيه حتى نمت والمصحف موجود على صدري، ومع صوت القصف استيقظت فتيقنت بأن السجن قد قصف، وفجأة سمعت صوتاً ينادي علي ليخرجني من هناك وخرجت سالماً غانماً بحمد الله"، وجاءت الناس تحتفل به رغم أن القصف أدلى لسقوط 13 ضحية.
وترجل الفارس
ما إن خرج محمود من السسجن حتى أصبح يعمل بكل جد ويستغل كل دقيقة في العمل من تجهيز وإعداد للشباب المجاهدين وكان فرحاً بتجمع الشباب حول الخيار العسكري ومقاومة العدو الصهيوني.
حتى جاء اليوم الذي لن أنساه ما دمت حية ففي يوم الجمعة الموافق 23/11/2001م وكان يوافق 8 رمضان، توجهت لصلاة التراويح، فشاهدت أربع طائرات للعدو الصهيوني تحلق في الأجواء، وانتابني شعور بأن هذه الطائرات تحلق لتستهدف محمود، وبعد التراويح صعدت مع أحد أولادي لسطح المنزل، وما أن شاهدنا أول صاروخ حتى هتفت بالتكبير الله أكبر وقلت أن المستهدف محمود، وكان ذلك بالفعل وفي تفاصيل الحدث، أن محمود عندما سمع صوت أول صاروخ خرج من السيارة التي كان يستقلها واختبأ بين الصخور غير أن الصاروخ أصاب السيارة التي كان يستقلها فاستشهد على الفور المجاهدان القساميان الشقيقان أيمن ومأمون حشايكة اللذان كانا برفقته، لكنه لما رأى الشهيدين أمامه والقصف ما زال مستمراً، خرج من بين الصخور مطلقاً النار تجاه الطائرات، التي عاجلته بصاروخ جعلته أشلاءً تتناثر في كل مكان، فأصاب ما كان يتمنى.
وبعد أخذ أشلاء الشهداء لمستشفى جنين، جئنا مع أهل الشهداء للتعرف عليهم، فعرف محمود من خلال الإصابة التي أصيب بها في كتفه يوم قتل جنود القوات الخاصة من "وحدة دوفدوفان".
وخرجت الجنازة من جنين صباحاً، وكلما مرت أمام قرية أو مدينة خرج الناس لوداعها، ورفض أهل نابلس أن يدفن محمود بقريته قبل أن يسيروا به في شوارع المدينة وما دفن إلاّ بعد صلاة العشاء، رغم أن الوقت كان رمضان والناس صائمون.
كرامة الشهيد
من كرامات محمود في حياته أن أحد أقربائه رآه مرتين في العمرة، وكان ينادي عليه فلا يجيبه وعندما سأل عن محمود بعد عودته أخبرناه أنه موجود في السجن لدى السلطة، ولما سئل محمود عن القصة قال: إن اثنين من الاستشهاديين ذهبوا قبل استشهادهم للاعتمار فأعطيتهم بعض التكاليف المادية من جيبي الخاص كي يعتمروا عني والحمد لله.
أذكر يوم عودته من الخليل، بعد أن جلس عندي حتى المساء، خرج من المنزل قاصداً الاختفاء عن الأعين فأصريت على إيصاله لخارج القرية غير أنه رفض ذلك، وبعد أن رأيته قلت له:"وين نمت يا محمود بعد ما تركتك" قال:"نمت نومة ولا أمتع من ذلك، كانت هناك شجرة في أعلى الجبل، وكنت قد اهتميت بها مسبقاً، وما أن وصلت عندها وفرشت لكي أنام، حتى وجدت ثباناً كبيراً بجانب الشجرة، فقلت له مخاطباً: والله لا ماسكك ولا قاتلك أنت مطارد وأنا مطارد مثلك، خليك نايم جنبي واستيقظت ولم يصبني بأي أذى".
رحم الله الشهيد محمود وجميع الشهداء، فهم المنارة وهم البوصلة التي يهتدي بها كل من أراد أن يسلك طريق العزة والكرامة للنصر والتحرير بإذن الله تعالى.
وصية الشهيد
كتبت وقد أيقنت يوم كتابتي
بأن يدي تفنى ويبقى كتابها
فإن عملت خيرا ستجزى بمثله
و إن عملت شراً عليها حسابها
( وصيتي للناس عامة وللحركة الإسلامية خاصة )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى اله وصحبه الخيّرين ومن تبعهم وسار على دربهم من المسلمين والمجاهدين بإحسان إلى يوم الدين : وبعد أيها المسلمون يا أبناء شعبي الفلسطيني المجاهد الصابر .
يا أبناء مدينتي نابلس جبل النار ومصنع الثوار ومسقط الشهداء . يا أبناء قريتي الحبيبة عصيرة الشمالية عصيرة الثوار والشهداء عصيرة القسام عصيرة معاوية وتوفيق ويوسف وبشار عصيرة علي سوالمة ومصطفى رواجبه وعوني صوالحة وكل الشهداء والجرحى والأسرى … إليكم . جميعا أوجه وإليكم أشواقي ومن أجلكم جل دعواتي . من أجلك يا فلسطين تطيب التضحيات ومن أجلك يا قدس نستلذ الآلام ولعيونك يا أقصى ترخص النفوس والأرواح .
يا أبناء شعبي الحبيب : الثبات الثبات ، والصبر الصبر مزيدا من التضحيات مزيدا من الالتفاف حول راية الجهاد فمن طلب الحسناء لم يغله المهر ، فأرضكم ومقدساتكم واعراضكم لن يحميها ولم يذبّ عنها هجوم الأعادي إلا عزائم وهمم أبنائها وفتيانها النشاما الذين شمروا عن سواعدهم ووهبوا أرواحهم رخيصة في سبيل عزة وكرامة ورفعة أمتهم ودينهم وشعبهم .
الحمد لله الذي أكرمني وتفضل عليّ بأن اختارني بأن أكون في صفوف خير الناس في صفوف المجاهدين فالحمد لله ربي على نعمك وكرمك بأن جعلتني مجاهد في سبيلك وأسألك يا ربي موتةً في سبيلك تشفي بها صدور المسلمين وتغيظ بها قلوب الكافرين وتسيء بها وجوه المنافقين والمتخاذلين . أخواني المسلمين : أوصيكم بتقوى الله أوصيكم بالعودة إلى الله ونهج نبيه وسيرة صحبه المجاهدين الصالحين أوصيكم بالوحدة تحت راية الدين القويم والاعتصام بحبل الله المتين تستمدون من الله المعين و النصرة وتلوذون بحماه وتلجئون إليه إذا ما داهمتكم الخطوب صلوا وصوموا وأعملوا بأوامر ربكم وقفوا عند نواهيه و اعملوا على تنشئة أولادكم وذراريكم على الإسلام وربوهم على القرآن وحب الرسول وعشق الجهاد أبعدوهم عن كل أسباب الخنا والتعلق بالدنيا علموهم التمرد على الذل ورفض الواقع السيء ، اخفضوا الجناح لبعضكم البعض وأحبوا إخوانكم وتعاونوا على البّر والتقوى وراقبوا أبنائكم و احموهم من كيد العملاء لهم و احذروا إسقاطهم في مستنقعات الرذيلة والعمالة. طلقوا الدنيا وحبها الذي يورث الجبن إياكم واليأس والقنوط من رحمة الله ونصره ولا تستمتعوا لصوت الجبناء والمتخاذلين والذين يخونوكم ويهددونكم بقوة أمريكا وأوروبا.
" الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " .
أيها المسلمون: اعلموا أن ما أصاب امتنا وشعبنا ما كان سببه إلا بعدنا عن منهج ربنا وهدي نبينا ولهثنا وراء الغرب تارة ووراء الشرق تارة أخرى فما أورثنا ذلك وما زادنا إلا ذلاً واستعباداً وفتكاً وفرقةً.
أما أنتم يا أبناء الحركة الإسلامية يا من اصطفاكم الله من بين خلقه ليحقق بكم قدره و ليجري أسبابه فيعيد على أيديكم قوة دينه ويعلي بكم رايته ويحقق بكم وعيده بإساءة وجوه بني إسرائيل فمزيداً من الرباط والثبات على نهجه يا أبناء الحركة الإسلامية تقدموا الصفوف و احملوا الرايات رايات الجهاد والدفاع عن حياض الدين والوطن لا تتخاذلوا ولا تتولوا فيستبدل الله بكم خيراً منكم.
وإليكم يا خيرة الخير في أرض الله يا من ترفعون راية الجهاد ويا من تقدمون التضحيات إلى قادتي وأخواني وأحبتي في كتائب القسام شُرفت بالعمل معكم عشنا الأيام معاً بحلوها ومرها أخلصوا النيات لله وداوموا العمل من أجل دينكم ووطنكم لا تجعلوا العدو يرتاح في كل موقع على أرض فلسطين " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين . إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون " .
استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه والسلام عليكم ورحمة الله