مجزرة غزة .. تنفيذ صهيوني وتواطؤ عربي
بقلم: د. ياسر سعد
مجزرة غزة الوحشية لا تَتَحَمَّلُ قوات الاحتلال الصهيونية وحدها وِزْرَها، بل وتَتَحَمَّلُ الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، والسلطة الفلسطينية، والنظام العربي الرسمي، وجهات عربية فاعلة، مسئولية مادية وأخلاقية وتاريخية عما يجري في القطاع المنكوب.
فبأسلحة الولايات المتحدة يُقْتَلُ الفلسطينيون وتُدَمَّرُ مساكنهم، وبغطائها السياسي تُقْتَرَفُ
الجرائم والمجازر بحقهم، وبتمويلها وبمبادراتها ومناوراتها السياسية تُقْضَمُ حقوقهم، وبوعودها يُسَوَّقُ الوهم لهم، وبتمويلها وتشجيعها تُؤَجَّجُ نار الخلاف بينهم.
أما المجتمع الدولي فلقد رضي، ومن خلال معاييره المزدوجة بدور شاهد الزور، الذي يُغْمِضُ العين عن جرائم الاحتلال، بل ويكافئه على حصاره وعقوباته الجماعية، كما فعل الاتحاد الأوربي مُؤَخَّرًا بتوثيق علاقاته مع الدولة العِبْرِيَّة بعد أعوام من حصارها لغزة، وفرضها العقوبات الجماعية على سُكَّانها.
أما السلطة الفلسطينية فقد هَدَّدَتْ عدة مرات بإعلان القطاع إقليمًا مُتَمَرِّدًا، فيما جعلت أجهزتها الأمنية، الْمُمَوَّلة أمريكيًّا، والْمُدَرَّبَة عربيًّا، مهمتَها الأساسيةَ ملاحقةَ المقاومين واعتقالهم، وأصبحت تحتفل بالقيام بعملياتٍ، تصفها بالمعقدة؛ لإسقاط مَنْ فشلت الأجهزة الإسرائيلية بتوقيفهم، بعد مطاردات استمرت لسنوات. ومع انتشار الأجهزة الفلسطينية في الضفة، وإتمامها مهامها في جَمْعِ السلاح "غير القانوني"، تصاعدت اعتداءات المستوطنين وجرائمهم بحق المواطنين الفلسطينيين العزل.
أبو مازن، والذي تَوَجَّهَ لواشنطن؛ ليشكر الرئيس بوش على جهوده وأفضاله، مُبْتَعِدًا عن نَبْضِ الشارع الفلسطيني ومشاعره، ومُرْسِلًا برسالةٍ خاطئةٍ بالتقدير والامتنان للجَلّادين ومُجْرِمي الحرب، وبأن موازيين القوى المادية هي التي تُوَجِّهُ البوصلة، وتحدد المسار، وليست الحقوق والقيم الأخلاقية.
القاهرة، والتي منها انطلقت تهديدات وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني، وفي مؤتمر صُحُفِيّ جَمَعَهَا مع وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط، باستهداف القطاع، بعد أن حظيت بلقاء الرئيس حسني مبارك، تتحَمَّلُ مسئوليةً كبيرةً عما يجري في القطاع.
المواقف المصرية والتي من أبرزها تشديد الحصار على قطاع غزة، والحملات الإعلامية النارية ضِدّ حماس، قرأتها إسرائيل على أنها ضوءٌ أَخْضَرُ لعملياتها العسكرية، خصوصًا مع تَسَرُّب تقارير صحفية عن طلب مدير المخابرات المصرية اللواء عمر سليمان من إسرائيل ضَرْبَ وتأديبَ حماس.
التهافت العربي على السلام مع الدولة العبرية، والحديث عن المفاوضات المباشرة، وتكرار محاولة
إغرائها بالتطبيع مع 57 دولة عربية وإسلامية، إن هي تعطَّفَتْ وقبلت بمبادرة السلام العربية! إشاراتٌ فهمتها إسرائيل على أن السبيل المثمر والفعّال للتعامل مع العرب هو في استعراض العضلات، وإبراز مزيدٍ من القوة والوحشية. خصوصًا وأنّ العروض العربية- وعلى أعلى المستويات- جاءتْ مع كل المخالفات والتجاوزات الصهيونية من استيطان وبناء جدار الفصل، وتصريحات ليفني حول فلسطينِي 48، ومع جرائم الحصار والاغتيالات الإسرائيلية.
مجزرة غزة هي الرد الإسرائيلي العملي على تهافُتِ العرب وعلى مبادرتهم السلمية، وهي
نموذجٍ عمليٍّ للشرق الأوسط الجديد، والذي يُرَادُ لإسرائيل أن تكون فيه السيدَ المطاعَ، والحاكمَ بأمره، فجميع مفاوضات السلام والمبادرات الدولية تتعامَلُ بعنصرية مع الفلسطيني، والذي عليه واجبُ حماية المحتل، مُقَابِلَ دولةٍ مَسْخٍ لا جيش لها، ولا معدات عسكرية فيها ، فيما تتعامل بتبجيلٍ مع دولة الاحتلال، والتي تمتلك السلاح النووي، وتُقَابِلُ أيّ إزعاج أو إيذاء لها ببراكين من النيران والمجازر، كما يجري الآن في غزة.
إذا سقطت غزة وانهارت مقاومتها، فسيدفع العرب ثمنًا باهظًا من كرامتهم ومستقبلهم، كما
حصل في العراق. فالذين يقاومون في غزة إنما يدافعون بأجسادهم العارية عن الأمة وكرامتها، في وجه الغطرسة الصهيونية، ويَدْفَعُون شَرًّا مستطيرًا، حتى على مَنْ يتآمر عليهم من أبناء جلدتهم.