بتأثير قوى عديدة حدثت عملية تحول تدريجية انتهت بنقلة – تكاد تكون نوعية – جردت القرءآن الكريم من مضامينه العملية – ومع أن هذا لم يكن مقصوداً على وجه التعيين – من المفسرين والفقهاء والمحدثين الذين مارسوا هذه العملية وأحلوا محلها مضامين تدعم الحفاظ، إلا أنها انتهت إلى هذه النهاية لأنها كانت حكم العصر ومقتضى التطور.
وأخذت هذه العملية التدريجية الطويلة شكل:
تفسير القرءآن الكريم تفسيراً يجعله كتاب قصص وحكايات، ومعلومات وليس رسالة هداية وثورة وإيثار المنهج التقليدى النقلى على المنهج التحرّرى القرءآنى وتسخير السنة لتبرير ذلك مما شل ملكة التفكير، خاصة بعد إغلاق باب الاجتهاد. وإقحام مضامين لاهوتية أفسدت عقيدة الله وشقت وحدة الأمة -وأدت فيما أدت إليه- إلى ظهور التصوف، وغيره من الاتجاهات.
تفسير القرءآن
كان الصحابة الذين عاصروا نزول القرءآن يجدون فيه رياً لنفوسهم، وشفاءً لصدورهم ونهجاً لما تكون عليه حياتهم وسلوكهم. ولم يطمحوا – باستثناء قلة – أن يحملوا القرءآن كله، وكان حسبهم عدد من السور يتدبرها الواحد منهم فتغنيه، لأنها قد تكون ذات معان واضحة فيفهمها، أو تكون ذات إعجاز لغوى فتخشع لها نفسه، ويمكن أن يكون هذا وذاك معا.
كان- الرسول- بين ظهرانيهم، وكان يمكنهم أن يسألوه، خاصة ومما يزيد فى دلالة هذا المسلك ومغزاه أن النبي وقد كان كل ما جاء فى القرءآن جديدا عليهم، ولكنهم أثروا أن لا يفعلوا ولعلهم تذكروا ضيق النبي يُسأل تزيدا وتعنتا و تفصيلا أو دون حاجة ملحة لذلك، (ذرونى ما تركتكم) وما جاء فى القرءآن من تحريم السؤال عن أشياء ﴿إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾.
بل أعجب من ذلك فى الدلالة أن النبى وقد تنزل عليه القرءآن لم يخبرهم بتفاصيل عن تفسير أو تأويل ما جاء به، إذ لو فعل ذلك لوصل إلينا وكل ما وصل إلينا من التفسير المرفوع إلى النبى لا يتعدى ثلاثة عشر صفحة على ما ذكره السيوطى فى كتابه "الإتقان فى علوم القرآن أجمل فيها التفاسير المصرح برفعها" صحيحها وحسنها وضعيفها ومرسلها ومعضلها وإن لم يعول على "الموضوعات والأباطيل" كما استبعد ثلاثة أحاديث طويلة مرفوعة لم يثبت له صحتها أحدها حديث موسى مع الخضر.. والثانى حديث الفتون والثالث حديث الصور "الذى يتناول يوم القيامة" عن تفسير القرآن معظمه له دلالته التى لا يمكن إهمالها لما فيها من حكمة.
ولخص أحد الشيوخ المعاصرين" التفسير والمفسرون" بقلم الشيخ عبد المنعم النمر" الموقف فقال " إن القرءآن الكريم لم يحظ بتفسير مروى عن الرسول ولا عن صحابته إلا فى آيات قليلة جداً ومتناثرة فلا يمكن أن تكون تفسيراً كاملاً بالرواية يعتمد عليه".
وعلى كل حال فقد اختلفت الصورة بعد أن قبض النبى وانقضى جيل الصحابة وجاءت الفتوح بالألوف المؤلفة من الذين أسلموا مع انتصار الإسلام من يهود أو نصارى أو صابئة.. وحملوا معهم بقايا معتقداتهم القديمة التى لم يكن من السهل عليهم التخلص منها ولم تسعفهم معرفتهم المحدودة بالعربية فى تفهم القرءآن أو إدراك إيجازه ومجازه، استعارته واشارته، ولم يكن فيهم ذلك الحرص على الجمع بين العلم والعمل وإنما كان فى معظمهم فضول للتعرف على ما جاء فى القرءآن ومدى اتفاق أو افتراق ذلك عما كانوا يعتقدونه.
وعزز هذا كله أن توسع المجتمع وتشعبت قضاياه وتعددت مسائله ولم يكن الذين ولوا الأمر بمنزلة النبى الذى يفصل فى الأمور بما لا يرد فانفتح الباب أمام ما أطلق عليه "علوم القرآن" وعكفت مجموعات من الناس على تأويل وتحليل وتفسير آيات القرءآن كل من زاويتها الخاصة مستعينة فى ذلك بما كان فى الكتب القديمة وبوجه خاص التوراة وما كان بين يدى أهل الكتاب من أقاصيص وروايـات طافحة بالتفاصيل ولم يجدوا حرجا من ذلك لما رووه من أحاديث لا تحرم ذلك بل لقد رووا "حدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج" فنقلوا عن "علماء اليهود أو من ظنوهم علماء بالتوراة وربما لم يكونوا من العلماء بل من النقلة المحرفين الذين يحرفون ويزيدون أو من عوامهم الذين يسمعون وينقلون ويزيدون، ويستمع منهم المسلمون حتى لتجد كتب التفسير محشوة بتفاصيل لهذه القصص لم يذكرها القرءآن ولكنها مأخوذة عن هؤلاء مما اشتهرت تسميته "بالإسرائيليات" وبعض هذه الإسرائيليات تجدها معزوة إلى ابن عباس أو غيره من الصحابة والتابعين مما يوهم روايتها عن الرسول وما هى كذلك وإنما هذا مصدرها الذى أتت منه، اليهود الذين أسلموا ونصبوا من أنفسهم أو نصب منهم المسلمون معلمين مخبرين، مما لم يذكره القرآن من تفاصيل القصص."
وامتلأت كتب التفاسير بهذه الأقاصيص وغيرها كأن ذكر ذلك هو القصد وليس تفسير القرءآن بعينه حتى صح على بعضها ما قيل على تفسير الرازى "فيه كل شئ إلا التفسير."
ودخلت ثلاث مجموعات على الأقل مجال التفسير فاللغويون أرادوا أن يصلوا إلى أسرار الإعجاز اللغوى فى القرآن، وما جاء به من نظم بديع ونسق فريد، وتطويع فى بنية الكلمات ليحقق وحدة الإيقاع وتنغيم الألفاظ، وليصل بالجملة القرءآنية إلى أقصى درجة من إحداث الأثر وأداء المعنى، والمذهبيون حاولوا إثبات مذاهبهم فى جوانب من العقيدة بمختلف الآيات مستغلين مرونة التعبيرات وما يمكن أن يحمله تركيب الجملة القرءآنية من معانى، وبوجه خاص الآيات المتشابهات، والإخباريون تتبعوا الوقائع التى ذكرت فى القرءآن من خلق آدم حتى قيام الساعة وما بين ذلك من أحداث، وقصص الأمم التى تحدث عنها القرءآن، وفى مقدمتها بنى إسرائيل.
والمأخذ الذى يؤخذ على هؤلاء جميعاً أنهم فى غمرة اهتماماتهم بتخصصاتهم وعملهم لإثبات وجهات نظرهم أهملوا الإشارة إلى روح القرءآن نفسه تلك الروح التى تنتظم آياته جميعا ككتاب إحياء ونهضة وهداية يستهدف إخراج الناس من الظلمات إلى النور.
وكانت النتيجة أن المفسرين – كما لاحظ ذلك أحد أعضاء مجمع البحوث الإسلامية "قد تصوروا مهمتهم على نحو خاص كان له أثر بين فى توجيه التفاسير التى وضعوها فقد واجهوا القرءآن فى البداية كنص يراد شرحه وإيضاح معانيه فشرحوا غامضه وحرروا معانيه وأشاروا إلى ما يتضمنه من مبادئ وأصول، ولكن الأمر لم يلبث أن تطور إلى صورة لم تكن تخطر لأحد على بال ولن نستطيع أن ندرك هذا التطور الجديد حق إدراكه إلا إذا تذكرنا أن العلوم العربية كانت فى هذه الحقبة تنمو وتزدهر فى دراستها فأوغل فريق فى دراسة البلاغة وتوسع آخرون فى دراسة النحو والصرف أو اللغة وجمع غيرهم فى دائرة تخصصهم بين كل هذه العلوم أو عدد كبير معه.
والأمر الخطير هنا أن التخصص العميق يصبغ صاحبه بصبغته الخاصة بصورة قوية فعالة لا يستطيع أحيانا أن يتحرر منها حتى إنه لينظر إلى الأشياء من وجهة نظر تخصصه شاء أم أبى. وقد أتجه كثير من هؤلاء اللغويين إلى تفسير القرءآن فماذا كانت النتيجة ؟ بحسبك أن تنظر فى تفسير الزمخشرى مثلا وأن تتذكر حين النظر فيه أن الرجل من كبار علماء النحو والصرف واللغة والبلاغة فستجد فى تفسيره مصداق ما أشرنا إليه آنفا من تأثر الرجل تأثرا عميقا بالعلوم التى تخصص فيها، فأول ما يأخذه نظره من القرءآن فيحاول بحثه ودرسه هو الاستعارات والمجازات وغريب القرءآن ثم نحو القرءآن وصرفه حتى إذا وصلت إلى حاشية الجمل خيل إليك أن الرجل إنما كان يعنيه أن يتخذ من القرءآن الكريم مجالاً لتطبيق علوم اللغة وبخاصة النحو والصرف أما معانى الآيات وموضوع القرءآن فقد أصبح بمعزل عن مجال الشرح والعرض وخلاصة الأمر أن القرءآن تنقلت به الحال من كتاب لتربية المسلمين وتعليمهم الدين والشريعة إلى نص لمجرد الفهم إلى ميدان فسيح لتطبيق علوم اللغة على اختلاف أنواعها وبهذا تم عزل القرءآن كعامل يعمل لتربية المسلمين وتكوين عقائدهم وأخلاقهم وشريعتهم وتوجيه سلوكهم.
وعثرة اللغويين من المفسرين نشأت من أنهم ركزوا العناية على الصناعة اللغوية والنحوية بصورة تفرغ الأسلوب من المضمون فقالوا أن فى آية: ﴿وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ عشرين ضربا من البديع وأن قوله تعالى ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ قد جمع الخبر والطلب والإثبات والنفى والتوكيد والحذف والوعد والوعيد.. وفضلوا الآية ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ على التعبير العربى القديم "القتل أنفى القتل" وتقصوا ما فى القرآن من تشبيه واستعارة وكناية وتعريض وإيجاز وإطناب وخبر وإنشاء الخ... وألفت كتب كاملة عديدة فى ذلك.
وأسوأ من عثرة التركيز على الصناعة بصورة تـُنسى المضمون القرءآنى أنهم فى بعض الحالات إفتروا على أسلوب القرءآن وحاولوا أن يخضعوه لقواعدهم. فإذا نزلوا عن ذلك قالوا –كما روى السيوطى– "هذا تفسير معنى وهذا تفسير إعراب" والفرق بينهما أن تفســير الإعراب لابد فيه من ملاحظـة الصناعـة النحـويّة وتفسـير المعنى لا تضره مخالفة ذلك.
وأشار كاتب محقق هو الأستاذ أحمد عبد الستار الجوارى فى كتابه "نحو القرآن" إلى المأزق الذى وقع فيه النحاة واللغويون عندما أرادوا الجمع بين مذاهبهم المقررة وما تشمل عليه الصياغة القرءآنية من بلاغة، بدلا من أن يجعلوا أساليب القرءآن المثال الذى يقتدى به وتقتبس منه قواعد اللغة فقال: "ولكن الذى كان ممن وضعوا النحو فى أول الأمر غير ذلك بل عكس ذلك من بعض الوجوه فقد اشتطت بهم السبل وعميت عليهم المسالك فتنكبوا سبل القصد واعتمدوا فى وضع قواعد النحو على ما بلغهم من كلام العرب شعره ورجزه ومثله. أو آثروا جانب المنطق فتصوروا القاعدة قبل استقراء المادة اللغوية وركبوا مركب الشطط فحاولوا أن يجعلوا للقواعد المجردة سلطانا على المروى المأثور يحكمونها فيه ويحسبون أن ذلك هو الصواب وما هو إلا مجانية الصواب ولقد بلغ بعضهم فى هذا المجال مبلغ الغلو فحكموا على مواضيع من أى القرءآن بخروجها على نحو العربية.. وركنوا إلى التأويل والتخريج، حتى تنسجم تلك المواضع بأساليبها الرائعة وتراكيبها الدقيقة مع ما افترضوا من قواعد وما رسموا للنحو من حدود.
وأدى تمسكهم بقواعدهم بالزمخشرى لأن ينزلق دون أن يشعر فيقول فى تفسير ﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ "والأصل ويبغون لها عوجا فحذف الجار وأوصل الفعل" ولم يستشعر الزمخشرى حساسية أو أنه أساء التعبير عندما قال "والأصل.." الأمر الذى استشعره مؤلف "نحو القرءآن" فوضع لفظة (والأصل) بين قوسين واتبعها بعلامة تعجب واستفهام لأن الزمخشرى دخل الحلبة كنحوى ولغوى يرى الأصل فيما يراه النحاة واللغويون بينما رأى الأستاذ الجوارى الأصل فيما يضعه القرءآن.
وعندما لم يـفهموا ضرورة النغم فى التعبير والإيقاع فى السياق وما يؤدى هذه المهمة من حروف أو كلمات، زعموا أن كل شئ يوجد لتحقيق ذلك، ولا يدخل فى استخداماتهم النحوية، يكون – بتعبيرهم "لغوا" ولم يجدوا حرجا من قول ذلك بالنسبة لنصوص قرءآنية.. فنقرأ فى استخدامات "ما " و " س" والثانى أن يكون لغوا وذلك نحو قوله تعالى ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ أى فبرحمة.. ومثل ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ أى بنقضهم
وأما قوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً﴾ ففيه قولان: أحدهما أن ما لغو، والتقدير أن الله لا يستحى أن يضرب مثلا بعوضة والثانى أن ما نكرة وبعوضة بدلا منها يسد مسد الوصف ويجوز الدفع فى بعوضه من وجهين أحدهما أن تكون خبر مبتدأ محذوف على طريق الجواب كأن قائلا قال ما هذا المثل فقيل بعوضة، أى هى بعوضة.
والثانى أن تكون ما بمعنى الذى وبعوضة خبر مبتدأ محذوف والجملة من صلة ما والتقدير أن الله لا يستحى أن يضرب مثلا الذى هو بعوضة.
فأنظر إلى هذه الإفتراءات والتعسفات والتعبيرات الركيكة والتفسيرات السقيمة على حين يمر التعبير القرءآنى بالنفس مرور النسيم العليل ويدخل الآذان دخول النغم الجميل.
وقد يتلطفون فلا يقولون "لغوا" ولكن زائدة كما قالوا فى "من" فى قوله تعالى ﴿مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ "كأنه قيل ما لكم إله غيره" فى حين أن تركيز الجملة القرءآنية يكاد يتأتى من حرف "من" الذى اعتبروه زائدا.ً
وقد لفت إطلاق تعبير "زائدة" على حروف أو كلمات أوردها القرءآن، ومدى لياقة ذلك الإمام السيوطى. فأورد فيما يجب على المفسر.. ".. أن يجتنب إطلاق لفظ الزائدة فى كتاب الله، فإن الزائدة قد يفهم منه أنه لا معنى له "، وكتاب الله منزه عن ذلك.
على أن مواقفهم تلك تهون أمام موقفهم تجاه "لحن القرآن" كما زعموا أى التعبيرات من نوع ﴿إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ﴾ ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ﴾ فهنا حطم القرءآن أقدس المقدسات النحوية من رفع أو نصب وكان أهون عليهم أن يمسوا قداسة القرءآن من أن يمسوا أوثانهم التى ظلوا لها عابدين فأوردوا أحاديث مؤتفكات فرووا عن عروة أنه سال عائشة عن ذلك فقالت: "يا إبن أختى هذا عمل الكُتَّاب أخطئوا فى الكتاب" ورووا عن عكرمة قال "لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان فوجد فيها حروفا من اللحن فقال لا تغيروها فإن العرب ستغيرها أو قال ستعربها بألسنتها، لو كان الكاتب من ثقيف والمملى من هذيل لم توجد هذه الحروف" كما رووا عن أبان بن عثمان يرويه الزبير يقول قلت لأبان بن عثمان كيف صارت ﴿لَكِنْ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ ما بين يديها وما خلفها رفع وهى نصب ؟ قال من قبل الكُتًّاب كتب ما قبلها ثم قال ما أكتب ؟ قال أكتب "الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ" فكتب ما قيل له ونسبوا إلى سعيد بن جبير أنه قال فى القرءآن أربعة أحرف لحن "والصابئون" "والمقيمين" ﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ﴾ ﴿إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ﴾.
ومن هذا ما أخرجه بن جرير وسعيد بن منصور فى سننه عن طريق سعيد بن جبير عن إبن عباس فى قوله ﴿حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا﴾ قال إنما هى خطأ من الكاتب حتى تستأذنوا وتسلموا أخرجه ابن أبى حاتم بلفظه هو فيما أحسبه مما أخطأت به الكتاب وما أخرجه ابن الأنبارى عن طريق عكرمة عن ابن عباس أنه قرأ ﴿أَفَلَمْ يتبين الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا﴾ فقيـل لـه أنـها فى المـصحف ﴿أَفَلَمْ يَيْئَسْ﴾ فقال أظن الكاتب كتبها وهو ناعس! وما أخرجه سعيد بن منصور عن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يقول ﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾ إنما هى ﴿ووصى رَبُّكَ﴾ التزقت الواو بالصاد وأخرجه من طريق الضحاك عن ابن عباس أنه كان يقرأ ﴿ووصى رَبُّكَ﴾ ويقول أمر ربك أنهما واوان التصقت أحدهما بالصاد وأخرجه عن طريق آخر عن الضحاك قال كيف تقرأ هذا الحرف وقضى ربك فقال ليس كذلك نقرؤها نحن ولا ابن عباس إنما هى ووصى ربك وكذلك كانت تقرأ وتكتب فاستمد كاتبكم فاحتمل القلم مدادا كثيراً فالتزقت الواو بالصاد".
فهذه كلها إما أن تكون روايات متهافتة وإما أن تكون من باب "وكم من عائب قولا صحيحا. وآفته من الفهم السقيم" وهذا واضح عند مقارنة دعاوى القوم بنص التنزيل العظيم تعالى عما يزعمون ولا يخالجنا شك فى أن هذا الكلام بأسره موضوع أو موهوم حتى عندما يحكم المحدثون بأن فيه ما هو صحيح على شرط الشيخين فلا عائشة ولا عثمان ومن باب أولى عروة وعكرمة وغيرهما يمكن يقولوا ذلك أو أن يحملوننا على قبوله ولأسهل علينا أن نقول إن القرءآن أراد أن يحطم وثنية هؤلاء النحاة الذين يعبدون القواعد دون المعانى كما أراد أن يحطم وثنية الذين يعبدون الملوك والأباء والشموس والأقمار دون خالقها جميعا. ً
وقد كانت هذه الأقوال المنحولة والادعاءات الموضوعة وأمثالها هى عدة المستشرقين وأعداء الإسلام فى الكيد له، وبناء الأحكام عليها.
إفتراءات بعض اللغويين على القرءآن الكريم تمسكا منهم بنظرياتهم ووصفهم بعض القراءات الثابتة بالرداءة والقبح، وما إلى ذلك من الصفات التى لا تناسب القرءآن الكريم:
من ذلك أنهم أرادوا قراءة الآية ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ بجر الأرحام عطفاً على الضمير المخفوض بدون إعادة الخافض، وهى قراءة متواترة عن النبى قرأ بها سلف الأمة واتصلت بأكابر قراء الصحابة.. لأنها تخالف قاعدة "لا يجوز عطف الاسم الظاهر على الضمير المخفوض إلا بعد إعادة الخافض" وردوها، وخطئوها وحرموا القراءة بها تحريما قاطعاً قال المبرد "لو أنى صليت خلف إمام يقرؤها لقطعت صلاتى وحملت نعلى ومضيت".
وقريب من هذا أو اشدّ منه.. موقفهم من قراءتين جاءتا فى قوله تعالى: ﴿إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ﴾ حيث قرأت كلمة ﴿هَذَانِ﴾ بالألف مع تشديد النون من "إن".. بل فى قراءات متعددة.. فعارضها بعض النحاة معارضة صريحة.. بل أنكروها إنكارا تاما وقالوا إنها ليست من القرءآن لأنها غلط من الكاتب.
فلما جاءتهم قراءة أخرى بالياء "هذين" عارضوها أيضا معارضة صريحة.. وقالوا: إنها "غلط من الكاتب" أيضا.
وأنظر إلى ركاكة ما يحملهم عليه تمسكهم بقواعدهم فقد قال الله تعالى ﴿إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)﴾ والإعراب الفطرى الذى يتبادر إلى الذهن لأول وهلة هو أن تعرب كلمة "السماء" مبتدأ. وخبره ما بعده "جملة انشقت"، وكذلك الحال فى الآية الأخرى، فالأرض مبتدأ، ما بعده خبر له "جملة مدت"، وبه قال بعض العلماء الإجلاء غير أن جمهور النحويين رفضوا هذا الإعراب الفطرى السليم، وتأولوا الآيات تأويلا يخرجها عن سلاستها المألوفة فى القرءآن الكريم فقالوا: التقدير إذا انشقت السماء انشقت، وإذا مدت الأرض مدت، فـ ﴿السَّمَاءُ﴾ فاعل لفعل محذوف تقديره ﴿انشَقَّتْ﴾، و ﴿الْأَرْضُ﴾ نائب فاعل لفعل محذوف تقديره ﴿مُدَّتْ﴾ تكلفوا كل ذلك ليخضعوا الآيات الكريمة للقاعدة النحوية التى صنعوها بأيديهم.. تلك التى تقول بوجوب إضافة إذا الشرطية إلى جملة فعلية، وفى هذا يقول ابن مالك.
ودخل الاخباريون الحلبة، ولعل أسبقهم وأبرزهم ابن عباس الذى أفردوا كتاباً كبيراً لتفسيره ومع هذا فقد قال عنه السيد رشيد رضا:
".. وأما ما روى عن ابن عباس فى تفسيره فأكثره موضوع لا يصح لأنه مروى من طريق الكذابين الوضاعين كالكلبى والسدى ومقاتل بن سليمان. وذكر ذلك الحافظ السيوطى وسبقه إليه شيخ الإسلام بن تيمية بل إن رواية هؤلاء وإضرابهم التفسير عنه وعن غيره هى المقصودة من قول الإمام أحمد " ثلاثة كتب لا أصل لها المغازى والملاحم والتفسير" قالوا إنه أراد كتبا مخصوصة فى هذه المعانى الثلاثة غير معتمد عليها لعدم عدالة ناقليها ولزيادة القصاص فيها وذكروا منها تفسير هؤلاء بل نقلوا عن الإمام أنه قال فى تفسير الكلبى "من أوله إلى آخره كذب لا يحل النظر فيه" وقالوا إن كل من ينقل فى تفسيره من الأحاديث الموضوعة لا يوثق بتفسيره بالمأثور ومن هؤلاء الثعلبى والواحدى والزمخشرى والبيضاوى.
وأهم من هذا وأصرح ما ذكره ابن تيمية فى تفسيره سورة النور " وهذه الكتب التى يسميها كثير من الناس كتب تفسير فيها كثير من التفسير منقولات عن السلف مكذوبة عليهم وقول على الله ورسوله بالرأى بل بمجرد شبهة قياسية أو شبهة أدبية.
"وأما كونه ثابتا عن ابن عباس أو غيره فهذا مما لم يثبت ومعلوم أن فى كتب التفسير من النقل عن ابن عباس من الكذب شئ كثير من رواية الكلبى عن أبى صالح وغيره فلابد من تصحيح النقل لتقوم الحجة وهذه الكلمات صريحة فى أن كثيرا من المنقولات عن السلف مكذوبة عليهم وقول على الله ورسوله بالرأى المجرد بل بمجرد شبهة قياسية أو شبهة أدبية ومن يطالع كتب التفسير يجد الكثير مما يصدق عليه هذا من إطلاق الآراء، أو الاجتهادات الركيكة أو الاستشهادات الباطلة بأبيات من الشعر ما أنزل الله بها من سلطان.
وقد ولع الاخباريون بمجالين كبيرين هما الإسرائيليات وأسباب النزول:
وشرح ابن خلدون فى مقدمته أسباب نقل المفسرين هذه الإسرائيليات فقال "والسبب هو أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية، وإذا تشوقوا إلى معرفة شئ مما تتشوق إليه النفوس البشرية فى أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجـود فإنما يسألون أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى، وأهل الكتاب الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية، فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التى يحتاطون لها – مثل أخبار بدء الخليقة، وما يرجع إلى الحدثان، والملاحم،
وأمثال ذلك، كعب الأحبار ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام، وعبد اللــه بن سبأ وأمثالهم فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم، وفى أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم وليست مما يرجع إلى الأحكام، فتتحرى فيها الصحة التى يجب بها العمل وتساهل المفسرون فى مثل ذلك، وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات وأصلها، كما قلنا عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية، ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك، إلا أنه بَعُد صيتهم، وعظمت أقدارهم لما كانوا عليه من المقامات فى الدين والملة، فتلقيت بالقبول من يومئذ".
وفى كتب التفسير من الإسرائيليات "طامات وظلمات" لا يتسع المجال لذكر نماذج منها وقد يكفى لإعطاء الفكرة المطلوبة أن نستشهد هنا ببعض ما جاء فى فهرس كتاب "الإسرائيليات والموضوعات فى كتب التفسير" للأستاذ الدكتور محمد بن محمد أبو شهبة.
الإسرائيليات فى قصة أصحاب أهل الكهف – الإسرائيليات فى قصه ذى القرنيين – الإسرائيليات فى قصة يأجوج ومأجوج – الإسرائيليات فى قصة بلقيس ملكة سبأ - الإسرائيليات فى قصة الذبيح وأنه إسحاق وليس إسماعيل عليه السلام – الإسرائيليات فى قصة إلياس عليه السلام - الإسرائيليات فى قصة داود – الإسرائيليات فى قصة سليمان – الإسرائيليات فى قصة أيوب – الإسرائيليات فى قصة إرم ذات العماد – الإسرائيليات فيما يتعلق بعمر الدنيا وبدء الخلق الخ.. – ما يتعلق بعمر الدنيا – ما يتعلق بخلق الشمس – ما يتعلق بتعليل بعض الظواهر الكونية – ما ذكره المفسرون فى الرعد والبرق – جبل ق المزعوم وحدوث الزلازل – الإسرائيليات فى تفسير {ن} و{القلم} الخ
ليس أدل على فساد هذه الأقاويل من أن الله تعالى ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد الأمر بالتوحيد مباشرة ومعطوفا عليه، وتوحيد الله وما يعطف عليه لا يكون توصية، ولكن وجوباً وقضاءً كما أن تناسق الإيقاع يرفض ووصى ويوجب " وقضى."
القول الفصل من رب العباد:
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا " الفرقان 32،33
يقولون عليكم بكتب التفسير ، والسؤال هنا هل نترك أحسن التفسير ونلجأ إلى مجرد التفسير و لم يقل سبحانه " بالحق والتفسير " ولكن قال " أحسن تفسيرا "...وأنه الحق لأنه من الحق تعالى وكلام البشر فيه الحق والباطل.